“خمسة أعوام مضت، ولا زلتُ بانتظاره، أعدّ الساعات والدقائق من كل يوم يمضي إلى أنْ يحين موعد اللقاء، وأعود خالية الوفاض دون أي خبر عنه، لا أعلم إنْ كان حياً أو ميتاً، لكن ثّمة ما يقول لي أنْ لا أفقد الأمل“.
هكذا تصف “سارة/اسم مستعار” انتظار مجيء زوجها المختفي قسراً بعد أنْ تعرّض للاعتقال على يد عناصر يُعتقد أنّهم من جهاز الاستخبارات التركية في حزيران/يونيو عام 2018 في عفرين. وتكمل “سارة”:
“لا أدري ما الذي حصل، وإنْ كان ذنبي أنّني من شجعته على العودة إلى القرية، لكنّني لم أكنْ أعلم أنّ الحال ستؤول إلى ما هو عليه الآن.”
وأردفت بالقول:
بعد عملية “غصن الزيتون” التركية ونزوحنا إلى مناطق “شهبا”، أخبرته بأنْ نعود مع الأهالي العائدين إلى عفرين، لكنّه امتنع في البداية، فحزمتُ الأمتعة قبله مع بعض أفراد العائلة لأعود إلى القرية وأتقصّى أوضاع الأهالي في المنطقة.
في البدابة لم نسمع عن حالات اعتقال أو ما شابه حين وصولنا. الخيبة في أنّ العناصر المسلحة كانوا يستقبلون الأهالي ولم يتعرضون لهم حينها لكي ينقضوا عليهم ما إنْ عادوا جميعاً. وهنا، شجّعتُ زوجي على العودة، رفض مجدداً، إلى أنْ وافق بعد إلحاحٍ شديد، وبعد عودته، كنّا أنا وابني وزوجي نعيش أياماً هادئة في القرية، إلى أنْ حدث ما لم يكن بالحسبان.
بعد شهرٍ من عودته، جاء إلى القرية جنرال تركي رفيع المستوى برفقة بعض العناصر المسلحة وبدأوا بحملة اعتقالات واسعة للشبان بغرض تسوية أوضاعهم، مع العلم أنّ زوجي لم يكن له أيّة علاقاتٍ سياسية أو تعامل مع الإدراة الذاتية السابقة. لا أدري ما الذي حدث بالضبط، لكنني ما زلتُ أتذكر ملامح ذلك الرجل، اتضّح لي أنّه تركي بعد أنْ سمعت صوته وهو يتأتئ بالعربية، ولفت انتباهي قوله:
“أعرف اللغة الكردية، لكنّني أكرهُ التحدّث بها وكل من يتحدث بها”.
قالها موجهاً كلامه لشبان القرية بكل استفزاز، وقاموا بأخذ زوجي وعدة شبان آخرين في القرية. لا تزال تلك الصورة عالقة في مخيلتي، أيا ليتني استطعت أنْ أوقف تلك اللحظة لأمسك به وألّا أدفعه إلى التهلكة. عانقني، وقال لي:
“اعتني بنفسك وبصغيري، سأعود..!”
أخبرونا بأنّهم سيأخذونهم لإجراء تحقيق روتيني وتسوية أوضاعهم ولا حاجة للخوف أو القلق. فركب زوجي السيارة إلى أنْ سارت بهم واختفوا عن ناظري.
مضت الأيام والأسابيع والأشهر ولا جديد عن زوجي، تقصّينا عن وضعه في المخافر والمراكز الأمنية ولم نتوصل لأيّة نتيجة، شعرتُ آنذاك بالحسرة والندم الحقيقي على ما فعلته، وأكثر ما يؤلمني سؤال ابني كل يوم:
“متى سيعود أبي؟! لقد وعدني بأنّه سيشتري لي دراجة ، لكنّه لم يأتي ولم يشتريها”.
فأُطمْئنه بأنّه قد أطال الغياب لأنّه مسافر وسيعود قريباً ليحضر لنا المال ويشتري لك الدراجة.
والمؤلم أنّني أصبحتُ محطّ اللوم من قبل جميع أفراد العائلة، لكنّني لم أكن أقصد ما حصل، فهل يتقصّد الإنسان أنْ يصنع السمّ ويشربه بنفسه؟ أنا وابني ضحايا ما حصل، وليس في اليد حيلة ولا أستطيع فعل شيء.
أناشد الله قبل الخلائق بأنْ ينتقم منهم شرّ انتقام! لأنّ زوجي بريء ولم يكنْ له ذنب سوى أنّه كردي، ولا سميع لحالنا غير الله. زوجي أحدُ ضحايا الاختفاء القسري ولا أدري عن حاله شيئاً، ولا أستطيع فعل شيء غير الدّعاء لله ليل نهار بأنْ أعرف عنه شيئاً ليطمئنّ قلبي.
وسأظلّ أنتظره إلى أنْ يأتي اليوم الذي يطرق فيه باب البيت ونتهافت أنا وصغيري بالرّكض، من منا سيفتح الباب أولاً لنرتمي في أحضانه حالاً.