“جمعنا أشلاءنا الهامدة ومزجناها في نغمةٍ واحدة، ورحلنا كالأمنيات بعيداً، لكن لم تنعم أرواحنا الساهدة بالراحة، شاء القدر أنْ يأخذهم الموتُ منا على حين غفلة. دُفنوا بعيداً عن تراب أرضهم، ودُفن معهم حلم العودة..! تمرّ سنواتٌ وأنا أخشى ألّا أحققَ حلمهم ولو بنقل رفاتهم إلى عفرين“.
هكذا أوضحت “سلافا علي رشيد” ابنة ضحايا القصف التركي “محمد علي رشيد” البالغ من العمر65 عاماً و”مدينة عبدو حسين”، 55 عاماً من قرية “حسن” التابعة لناحية راجو، مآسي والديها.
تتحدث “سلافا” لتعيدنا لأيام المآسي، حين كانت تشنُّ تركيا هجوماً عنيفاً في 20 يناير/كانون الثاني 2018 على عفرين آنذاك، وعلى إثره فقدَ كل عفرينيّ شيئاً، سواء كانت قطعةً من جسده/ا أو عزيزاً أو أملاكه/ا أو فقد هو/هي حياته/ا كلها. وتضيف:
“بسبب تصاعد وتيرة القصف التركي وفصائل الجيش الوطني السوري المدنيين، قرّرنا المغادرة، ونزحنا صوب عفرين، ومكثناْ فترة في منزل أحد الأقارب بمركز المدينة. بقينا في ذلك المنزل، ولم نستطع جلب أيّة أغراض معنا، ولم نعلم كم ستطول المدة. كنا نعتقد أنها لفترة مؤقتة ربّما تستمر أسبوع أو أكثر“.
وتتابع: “ورغم الخطر واستمرار القصف والهجوم في يوم 30 يناير/كانون الثاني 2018 ذهب والداي برفقة عمي لتفقّد منزلنا الكائن بمركز ناحية راجو وإحضار بعض الحاجيات. كنّا نملك مكتبة للقرطاسية قريبة من منزلنا. عندما ركن أبي سيارته أمام المكتبة، استهدفته قذيفة عبر طائرة مسيّرة كانت تراقب حركة السيارة وقتها. أصيب أبي هناك في ساقه، وقام عمي بإسعاف أبي لأقرب نقطة طبية. وتمّ استهدافهم مجدداً ثلاث مرات على التوالي أثناء خروجهم من راجو عند مدخل المدينة، مما أدّى إلى بتر ساقيْ والداي ويد عمي اليمنى، وجرى إسعافهم إلى المشفى، حيث تمكّن الأطباء من إيقاف النزيف“.
“كانت السماء تمطر أشلاءً“، هكذا وصفت “سلافا” شعورها عند رؤية والديها أمام باب مشفى آفرين بمدينة عفرين، وتضيف:
“كانت صافرات سيارات الإسعاف وسيارات المدنيين تُسمع من كل أرجاء المدينة، وكانت عشرات السيارات تنقل المصابين للمشفى، منهم من كان جثةً هامدة وأشلاء وسلالم تقطر دماء، وجرحى مضرّجون بالدّماء، وناجون في حالة صدمة. ذلك كان المشهد أمام بوابة المشفى. فالسماء كانت تمطر أشلاء..! ظروفٌ لا يمكن تخيّل صعوبتها، وعشرات الغرف امتلأت بالمصابين بين الحياة والموت! لم يعدْ في المشفى مكانٌ يتّسع لأحد“.
بين الحياة والموت لحظاتٌ تحبس الأنفاس، رغم نزيف والدتها وفقدان والدها الوعي، استطاع الكادر الطبي إنقاذ حياة والدْيها. على الرغم من أنهم خُضعوا لعملية جراحية، إلا أنّهم تلقوا بعد العملية الحد الأنى من العلاج واهتمام الأطباء الذين كانوا يتعاملون مع عددٍ متزايد من المصابين بإصاباتٍ خطيرة وسط تضاؤل الإمدادات الطبية والدوائية.
وتتابع: “نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية ونقص الرعاية الطبية في عفرين توجهنا إلى قامشلي لتلقي العلاج المناسب“.
تقول سلافا: “عانى والداي خلال عامٍ ونصف صعوبات بالغة في مكان النزوح القسري بسبب بتر ساقيهما“.
وبتاريخ 19 حزيران/يونيو 2019 توجّه العم “محمد” والخالة “مدينة” إلى الحسكة برفقة ابنهما “شيروان” وابن عمه “محمد علي” والسائق “رشيد محمد” من قرية “عطمانو” بناحية راجو لتركيب أطراف صناعية، وقضى جميعهم نحبهم جراء تعرضهم لحادث سير على الطريق الدولي بين مدينتي قامشلي والحسكة، وتمّ دفنْ جثمانهم في مقبرة المدنيين في مدينة قامشلي، ودُفن معهم حلم العودة للديار!
تحاول سلافا وهي أمٌّ لطفل ذات الخمس سنوات تقبّل الوضع بصعوبة قائلة: ” لا أحد يمكنه وصف مرارة هذا الشعور، فهو خليطٌ من الأحاسيس الأليمة! تارة أستوعب الأمر وتارةً لا أصدقه. أقول كي أواسي نفسي، بأنّ هذا كان مجرّد كابوساً!“.
تقول سلافا أنّها دفنت جثامين أهلها مع التوابيت لنقل رفاتهم فيما بعد إلى مسقط رأسهم وتحقيق أمنيتهم بالعودة، تضيف: “كانت أمنيتهم العودة لبيتهم، لكنّ القدر أبى أن يحقق لهم ذلك!“.
نعم، إنّها قصة العفريني “محمد علي رشيد” وزوجته من أهالي ناحية راجو، نزحا برفقة ابنيهما من عفرين جرّاء الهجمات التركية، حيث كانا قد تعرّضا لبتر ساقيهما نتيجة القصف على المنطقة، واستقروا في منطقة الجزيرة السورية، لينتهي بهم المطاف بحادث مروري.