قالوا لي: ستعيشين لتكملي حكمكِ في السجن، فعشت لأحكي قصتي ، حرةً

اسمي فاطمة؛ امرأة تجاوزتُ الخمسين من عمري. وُلدتُ ونشأتُ على ضفاف الزيتون في إحدى قرى عفرين، حيث طمأنينة القلوب وجمال المكان، رغم شح الموارد وسط أجواء الرخاء المتواضع.

كانت حياتنا تدور في بيت بسيط، بنيناه من الحجر والطين. عشتُ فيه برفقة زوجي وأبنائنا؛ كنا نتقاسم الرغيف والضحكات، ونزرع في زوايا البيت أملاً ينبثق من الإرادة وتصميمنا على مواجهة أقسى الظروف. لم يكن لدينا ما يُشترى بالمال، لكن كانت لدينا مبادئ لا تُقدَّر بثمن: عزة النفس، والكرامة، والدفء الذي ينبع من القلوب المخلصة.

زوجي، ذلك الرجل الذي حملنا معاً أثقال الحياة، بدأ التعب يُثقل كاهله حتى لم يعد قادراً على مواصلة العمل، فحملت بناتُنا المسؤولية من بعده؛ إذ كنّ يخرجن كل صباح للعمل في الحقول، وأقدامهنّ تتلامس مع تراب الأرض، بينما تستمر ضحكاتهن كرمزٍ للحياة رغم العناء. كنتُ أنظر إليهن بعين الفخر ممزوجة بوجع الأم، إذ كان قلبي يعتصر لأنه لا يمكننا أن نوفر لهن الراحة والحياة الكريمة. ومع ذلك، كان لبيتنا طعمُ الفرح الذي لا ينطفئ، وضوءٌ في كل زاوية ينبعث من الحب والتآلف الذي يجمعنا في وجه كل صعاب.

مرّت الأيام، وتزوّجت بناتي واحدةً تلو الأخرى، وبقيتُ مع زوجي وأطفالي الصغار، وابنتي الصغيرة التي كانت رفيقة أيامي، لا تفارق حضني ولا تغادر قلبي. إلى أن حلّت إحدى أمسيات شتاء عام 2018؛ في تلك الليلة، تبددت كل معاني الأمان والسكينة، وحلّت الفوضى مكانها. تغيّرت ملامح حياتنا بشكل لا يُنسى، وكان ذلك الحدث بمثابة انشقاقٍ في نسيج الحياة التي اعتدناها.

في تلك الليلة، كانت السماء رمادية، ولا تكاد تُبشّر بنورٍ جديد، والبرد يتسلل بخبث من خلال الثقوب الصغيرة في النوافذ والأبواب. لم تكن الأيام قد مضت منذ أن سيطرت فصائل “الجيش الوطني” على مدينتنا، حيث كانوا يتجولون في القرى ويبحثون عن عدوٍّ مجهول. وفي خضم هذا التوتر المخيّم على المكان، خرج زوجي ليجمع بعض الحطب، فيما كان أطفالي مشدودين خلف هاتفٍ واحد، يجمع بينهم صراعات طفولية لا تكاد تعني للعالم شيئاً. وفي لحظة غضب، مددتُ يدي وانتزعتُ الهاتف من أيديهم وكسرته، لتكون تلك اللحظة التي قلبت مجرى حياتي رأساً على عقب.

لم تَمضِ لحظات حتى سمعنا صوتاً عنيفاً على باب منزلنا، ليدخل رجال غرباء دون هوادة، ويسألوني بنبرة قاسية عن سبب كسري للهاتف. حاولتُ أن أشرح لهم، توسلتُ وبكيت، لكنهم اكتفوا بصمتٍ بارد واقتادوني بعيداً عن ابنتي الصغيرة وأطفالي، وأنا ألتفت إليهم بقلقٍ أخّاذ لا يميّز بين دموع الحزن وصرخة الخوف.

وهنا بدأت قصتي مع الألم؛ عصّبوا عينيّ وقيّدوا يديّ بالحديد البارد، وألقوا بي في زنزانة ضيقة لا تطلّ عليها الشمس. هناك، بدأت محطات التعذيب: كانوا يقيّدونني بأربعة أحزمة تضغط على ظهري، وتلاحقني ركلات متتالية وصدمات كهربائية، فيما كانت الشتائم تنهش روحي. وكلما حاولتُ الإجابة عن السؤال الذي يُطرح بلا رحمة: “لماذا كسرتِ الهاتف؟”، كانت تُرمى عليّ الاتهامات بالكذب.

استمرت الكوابيس خمسة عشر يوماً؛ أيامٌ ناجيتُ فيها السماء تحت سياط الألم. ثم نقلوني إلى سجنٍ آخر، حيث اختبرتُ مرارات أكبر: زنزانة انفرادية تفتقر لأدنى مقومات الكرامة، جوع متكرر، وشتائم تتردد كالنفير.

في أحد الأيام، نظر إليّ المحقق بنظرة باردة وقال: “اعترفي وسترتاحين”. لكنني، وسط الظلم والذهول، لم أكن أملك شيئاً لأعترف به. أحسست بالحيرة تختلط بالخوف، فاشتد غضبه، وأمر بإحضار “الدولاب”. رُفعتُ إلى داخله وبدأوا التعذيب حتى فقدتُ وعيي.

استفقتُ ببطء في غرفة مكتظة بالنساء، وعلى أحد الزوايا كان يجلس طفل صغير لا يتجاوز السادسة من عمره، عيناه تتساءلان عن معنى الألم الذي يغمر المكان. بقيتُ هناك شهراً كاملاً، ثم اقتادوني إلى المحكمة.

حين دخلت قاعة المحكمة، سألني القاضي بصوت صارم: “لماذا أنتِ هنا؟” فزعتُ وأجبتُ بالحقيقة التي تنبض من أعماقي. لكنه صاح قائلاً: “أنتِ تكذبين!”، ثم نطق بحكمٍ قاسٍ: “عشر سنوات من السجن”. ارتجفتُ وجثوتُ على ركبتيّ، وقد سيطر عليّ شعور خانق، كأن نوبة قلبية خنقت أنفاسي. أعطوني حبّة لأضعها تحت لساني، ليختم القاضي حكمه بعبارة: “ستعيشين لتكملي المدة!”

مضت الأيام واستُؤنف حكمي بين الجدران الباردة، وكانت الأيام ثقيلة كالفصول الملتوية. كنتُ أستمد قوتي من ذكريات أطفالي التي تتردد أصواتهم في مخيلتي، ومن ضوء وجه زوجي الذي يلوح في زوايا ذاكرتي رغم الألم.

بعد مرور أربع سنوات، استدعاني القاضي مجدداً، نظر إليّ بنظرة تحمل السخرية والمرارة، وسأل بابتسامة خبيثة: “كيف حالك؟” شعرت بأنه يسخر مني، ولم يكن ذلك بعيداً عن الحقيقة. صرخ في وجهي: “زوجك أصبح ضريراً!” سقطتُ أرضاً وشعرت بنوبة عصبية اجتاحتني حتى فقدت السيطرة على نفسي. أفقتُ لاحقاً في زنزانة مظلمة، أحدّق في السقف كأنني تائهة.

بعد عام، سمعت أحدهم ينادي: “فاطمة، إخلاء سبيل.” لم أصدق، حتى عصّبوا عينيّ من جديد وأدخلوني السيارة، ثم ألقوني على قارعة الطريق. عندما لمستُ التراب بيدي، أيقنتُ أنني حرة.

فتحتُ عينيّ لأجد الشمس مشرقة. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجدتُ سيارة أقلّتني إلى قريتي. طرقتُ باب منزلنا، ففتح شاب لم أتعرف إليه، حتى ناداني بابتسامة دافئة: “أمي؟” اندفعتُ نحوه وانهمرتُ بالبكاء بين ذراعيه.

دخلتُ المنزل على وقع مأساة؛ إذ كان زوجي مستلقياً، هزيلاً. اقتربتُ منه واحتضنته، فقال بصوتٍ مبحوح: “اشتقتُ لوجهكِ الجميل، لكني لم أعد أستطيع رؤيتك، لقد أصبحتُ ضريراً”. أصيب زوجي بالعمى أثناء فترة احتجازي، بعد أن تدهورت حالته الصحية بسبب مرضه المزمن (السكري). شعرتُ لوهلة أنني في بيتٍ لم يعد بيتي؛ خرجتُ من السجن لأجد واقعاً جديداً: زوجي أضحى ضريراً، وأولادي كبروا في غيابي، حتى إنني لم أتعرف إليهم، كأنني ضيفٌ عابر في مأواي.

رغم كل ذلك، ما زلتُ هنا؛ واقفة، أحمل ندبي كأوسمة على صدري، أقاوم من أجل أولادي، ومن أجل ذلك البيت الذي لا يزال يشهد على تضحياتنا. ستبقى قصتي حية، شاهدةً على أن أحكام الظلم لا تدوم، وأن الحكايات يجب أن تُروى، ليعرف الظالمون أن عدالة السماء ستنصفنا، ولو أنكرتنا عدالة الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *