أنا ليلى، أشارك معكم قصتي ما قبل عملية غصن الزيتون في آذار/مارس 2018 وما بعد، لقد شكلت هذه المرحلة علامة فارقة في حياتي وتركت آثاراً وندوباً لن تمحى، ما حييت.
كنت أعيش حياةً هادئة برفقة عائلتي الجميلة، أنا و زوجي الذي كان يعمل تاجراً في مجال الأعمال الحرة، كانت أمورنا المادية ميسورة وكانت حياتنا جميلة للغاية، وكنا نعيش في رفاهية وأمانٍ تام، إلى أن رزقني الله بطفلتي الأولى، “تالا”، ما قبل عملية غصن الزيتون بفترة قصيرة، وكانت هي ثمرة حبنا وأجمل عطايا الرب لنا.
بعد مرور أسبوعين من ولادة طفلتي، سمعت أصواتاً تهز أرجاء البيت بأكمله، شعرت بالرعب واتصلت بزوجي ليخبرني آنذاك بضرورة التزامي التواجد في المنزل مع طفلتي الرضيعة، وهو بالكاد ما قمت بفعله، طلبت منه المجيء إلى المنزل بسبب الخوف والرعب الميهمن على قلبي، إلى أن وصل.
مرت الأيام وتصاعدت وتيرة القصف على مناطقنا وخيّم الخوف على قلبي، كنت أشاهد الأخبار دائماً وأشعر بأن مكروهاً كبيراً سيحل بنا، كلما أخبرت زوجي عن ذلك الإحساس، كان يفنده على الدوام، ويصدّقه قلبي.
بعد مرور عدة أسابيع، قرر زوجي الذهاب إلى إحدى المناطق الحدودية لنقل معداته الموجودة في قرىً تابعة لناحية راجو، إلى مركز مدينة عفرين، كان قلبي يخبرني بأن مكروهاً ما سيحل لكنني لم أدرك ما هو بالضبط، منعته من الذهاب عدة مرات، وأخبرني أن الأمور تحت السيطرة والوضع آمنٌ للغاية، إلى أن إنطلق برفقة زميلٍ له في العمل، وبالفعل حدث ما تنبأ به قلبي، شاهدت نبأ استهداف عدد من المدنيين وسياراتٍ مدنية بقصفٍ مكثف طالَّ طريق راجو، كان الخبر مثل الصاعقة، وأدركت أنني ما خشيت حصوله، قد حصل بالفعل.
تواصلنا مع عدد من أصدقائه وبعض المتواجدين ضمن تلك المنطقة في تلك الفترة ولم يخبرنا أحد حقيقة ما يجري، و بعد مضيّ عدة أيام على الحادثة، تواصل معي صديقٌ له كي يخبرني بتعرض زوجي وزميلٍ له للاعتقال أثناء دخولهما لناحية راجو، إزاء كمينٍ نصبته فصائل مسلحة تتبع للجيش الوطني السوري حين بسط سيطرتها على تلك المنطقة.
يوماً بعد يوم، كنت على أملٍ بأن أسمع خبر اليقين بما يطمئن به قلبي، كنت بالانتظار وأتابع عن كثب كل الاتصالات والرسائل التي كنت أتلقاها بخصوصه، هناك من أخبرني أنه قد فقد حياته إزاء القصف الذي طال عدة سيارات كانت تتواجد هناك، وهناك من أخبرني أنه معتقلٌ مع آخرين، ومضت الأيام إلى أن سيطرت قوات الجيش الوطني السوري على منطقة عفرين في 18 آذار/مارس 2018، ولا زلت في منزل عائلتي المكونة من أمي وأبي المسنين، بانتظار زوجي مع وليدتي.
أروي لكم قصتي هذه كإمرأة ندرت عمرها للانتظار ومعرفة شيءٍ عن زوجها، إلى اللحظة، و كناجيةٍ من الاعتقال التعسفي، برفقة طفلتي الصغيرة تالا، التي لم تكن قد تجاوزت السنتين من عمرها أثناء اعتقالي، و والدتي ناهد، البالغة من العمر خمسين عاماً، كنت أحاول جاهدةً أن أكون قويةً بعد فقداني لزوجي والقصف العشوائي الذي طال مدننا وقرانا وأوقع ضحايا، لكنني لم أنجح بتحقيق ذلك. في إحدى الأمسيات من عام 2020، انقلبت حياتنا رأساً على عقب.
في ذلك المساء، كانت الأجواء هادئة وكنت جالسة برفقة والدتي التي كانت تلاعب طفلتي الصغيرة، ووالدي خارج المنزل. فجأةً، سمعنا صوتاً قوياً وكأن أحدهم إقتلع الباب، قمنا وهرعنا أنا ووالدتي إلى الباب لنرى عشرة رجال مسلحين داهموا منزلنا. لم أكن أفهم ماذا يحدث ولما اقتحموا البيت وكسروا الباب. اقتادوني أولاً إلى الخارج، وسط صرخات أمي التي حاولت الدفاع عني بلا جدوى. لم تُستثنَ حتى طفلتي الصغيرة، التي كانت أمي تضمها إلى صدرها وتحاول حمايتها بكل قوتها، لكنها سُحبت هي الأخرى.
تمَّ أخذنا إلى مركز احتجاز مظلمة. حيث الضرب والتعذيب أولى محطات الاستقبال. وجهوا لنا اتهاماتٍ بالتعاون مع جهات متعددة، منها جهات كردية وأخرى مرتبطة بجهاز النظام السوري، وبدأت التحقيقات معنا لأربع مرات يومياً. تعرضت للضرب بالعصي على ظهري وساقي، وهددوني مراراً بأخذ طفلتي مني إلى الأبد.
كلما سألتهم عن سبب احتجازي، أخبرونا بأنكم كنتم على علاقاتٍ مع جهاتٍ معادية لنا، وكنا نتعرض للتعذيب والإهانة على أننا مجرمات ونستحق ما حلَّ بنا.
كان اسم زوجي يلازمني على الدوام، كلما نظرت إلى وجه طفلتي وأنا أردد لها تهويدة الأمان بأننا سنخرج يا حبيبتي، وسيخرج والدكِ الجميل لنسترجع أيامنا الجميلة وتكبري في حضن والدكِ العزيز.
كنت أسال على الدوام كل عنصرٍ عن اسم زوجي، وكان الجواب دائماً بدفعي مبالغ لهم أو قضائي لبعض الوقت برفقتهم، إلى ان خارت قواي وفقدت الأمل، وهذا ما لم يكن في الحسبان يوماً، أن أفقد أمل عودته.
أجبروني على توقيع أوراقٍ لا أعرف محتواها، وهددوني بتصويري دون ملابس إن رفضت. وفي إحدى الليالي، أعطوا طفلتي حبة مخدرة، رأيت عينيها تحمر وتدمع وحرارتها ترتفع بشكل مرعب. كادت تموت بين يدي، ولم يتحركوا لإنقاذها إلا بعد حين.
قضينا شهراً كاملاً في ذلك المكان، كنا نخرج للحمام مرتين فقط في اليوم، ورؤوسنا مغطاة بقطع قماش، مهترئة. الطعام كان بالكاد يكفي لإطعام شخص واحد، ويفتقر للنظافة والملح والزيت. كنا ننام على الأرض الباردة مع غطاء واحد نتشاركه مع الحشرات. أمي ناهد، التي كانت دائماً صلبة، أصيبت بأزمة قلبية من شدة التعذيب، بينما أصبت أنا بانهيار عصبي إزاء ظروف الاحتجاز القاسية.
بعد عام، نقلونا إلى سجن آخر أكثر اكتظاظاً. وجدت نفسي وأمي وسط عشرات النساء والأطفال، منهم رضع لم يتجاوزوا أسابيعهم الأولى، كانت هناك قصصٌ وحكايا كثيرة، حيث الاغتصاب والتعذيب وموت بعض السجناء تحت الضرب، كانت الظروف قاسية جداً.
انتشرت الأمراض بيننا بسبب انعدام النظافة والطعام الذي يكفي بالكاد إبقاء شخصٍ منا على قيد الحياة.
بعد مرور عدة أيام، تمكن والدي من الوصول إلينا ومعرفة مكان احتجازنا عبر وسيط، وطالبه عناصر السجن بفديةٍ مالية تراوحت 18 ألف دولار مقابل الإفراج عنا، شعر والدي باليأس عند سماعه المبلغ لعجزه عن توفيره كاملاً، كان أبي شخصاً متواضعاً وفلاحاً بسيطاً، لكنه لم يستسلم وجمع المال بعد اقتراضه من عدة أشخاص.
بعد دفعه المبلغ ومرور عدة أشهر،خرجنا، ووطأت قدماي الأرض وأبصرت النور والحياة من جديد، أيقنت آنذاك معنى جمال كلمة الحرية التي لطالما نادى بها مظلومون ومحكومون.
لقد تركت التجربة جروحاً عميقة في روحي وذكريات لايمكن نسيانها.
انا ليلى،وهذه قصتي ، قصة صمود ،ألم ، وربما أملٌ ضئيلٌ تبقى لأن أعيش يوماً برفقة زوجي وطفلتنا الجميلة، وأن أرى كل أولئك الأطفال و والدتهن المحتجزات، ظلماً، يبصرن النور.