جاءت حادثة جنديرس التي راح ضحيتها أربعة شبان كرد في عشية نوروز، كحلقة أخرى من مسلسل الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل المسلحة السورية التي تدعمها تركيا منذ احتلالها لعفرين في 18 آذار/مارس 2018، بشكل متكرر وممنهج بحق السكان الكرد الأصليين. ومن بين تلك الفصائل تصدّر فصيل “جيش الشرقية” مشهد الأحداث بعد حادثة جنديرس، فسجله حافل بالانتهاكات بحق السكان الأصليين وخاصة الكرد منهم. حيث اعتدى أحد قيادي الفصيل في وقت سابق لحادثة جنديرس على امرأة في وسط الشارع، ومنع احتفال المواطنين الكرد في عدة قرى بعيد النوروز وكذلك قاموا بتهديد عائلة في جنديرس كانت قد أشعلت ناراً للاحتفال في ليلة نوروز.
حاول فصيل “جيش الشرقية” فرض هيمنته على السكان الأصليين للمنطقة دون أي احترام لعقائدهم ومقدساتهم، فاتجهوا عشية ليلة نوروز صوب عائلة “عثمان” المعروفة باسم “بشمرك” عندما وجدوا شعلة من النار على أسطحهم، وحاول ثلاثة عناصر من فصيل الشرقية الاستفسار عن الذي أشعل النار من السيد نظمي عثمان (51 عاماً) الذي كان جالساً أمام منزله. حيث كان الشاب “محمد بن فرح الدين عثمان” (19 عاماً) قد أشعل ناراً على سطح المنزل، لكنّ نظمي أنكر للعناصر معرفته بذلك خوفاً من اعتقال ابن أخيه.
وحول تفاصيل الحادثة أفادت الشاهدة “ياسمين مصطفى جقال” في اتصال خاص مع “ليلون” وهي والدة الضحية “محمد فرح الدين عثمان” وزوجة الضحية “فرح الدين عثمان”(44 عاماً) في شهادتها قائلة:
“قام عناصر الفصيل بالشتم والاعتداء على نظمي وابنه بالأيدي والحجارة، وتفادياً للمشكلة قامت زوجته بإدخال ابنها إلى المنزل”.
وتتابع الشاهدة:
“في تلك الأثناء قام ولدي حمي (محمد) بالدفاع عن عمه حتى تمكنوا من طردهم، لكن في غضون دقائق عاد العناصر ثانيةً مدججين بأسلحة حربية وبنادق آلية رشاشة، حيث أن مقرّهم يقع في نفس الشارع الذي نقيم فيه، وهو بالأساس منزل لأحد السكان تم الاستيلاء عليه”.
وعند سماع الأخ الأصغر “محمد عثمان” لأصوات الشجار خرج لمعرفة السبب محاولاً تهدئة الوضع، حين قام العناصر بإطلاق النار عليه بشكلٍ مباشر وقتله، وتوجهوا نحو نظمي وأطلقوا عليه النار، ومن ثم بدأوا بإطلاق النار على “محمد فرح الدين” الذي حاول الاختباء خلف الجرار لكنه لم يتمكن من حماية نفسه، حيث أصيب بعدة طلقات، ولدى سماع “فرح الدين” أصوات الرصاص خرج ليعيد ابنه للمنزل، لكن وفور وصوله إلى مكان الحادث تمّ قتله أيضاً على يد العناصر بالأسلحة الرشاشة.
وأضافت الشاهدة ياسمين:
“لم تقم المجموعة بإنذار أو تحذير أي أحد، بل استهدفوا بشكل مباشر كل من وصل إلى مكان الحادثة، ثم قامت المجموعة المسلحة بسحب جثث الضحايا ووضعها أمام المنزل ورشهم بوابل من النيران، ثم قاموا بتفتيش جيوب جثث الضحايا وسرقة أموالهم وتجريدهم من محفظاتهم ومدخراتهم الشخصية”.
بعد أن تأكد الجناة من مقتل الجميع، ركبوا الدراجة النارية مردّدين عبارات وشتائم ضد الكرد ووصفهم بالملحدين والكفرة، وتوجهوا إلى بيوتهم.
عندما تمّ نقل الضحايا إلى “المشفى العسكري” في جنديرس، كان الجميع قد فقدوا حياتهم، ما عدا “نظمي” الذي نقل إلى “المشفى العسكري” في عفرين ومنها إلى مشفى “آفرين”، ووضع في العناية المشددة، لكنه في صباح اليوم التالي فقد حياته هو الآخر. كما جرح شخص آخر وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة اسمه “فراس عبد الرحمن رشو” في قدمه.
ويبعد مقر القوات التركية من مكان الحادثة حوالي 800 متراً، ووفقاً للمصدر “صلاح” (اسم مستعار وهو أحد سكان الحي وأحد المقربين من عائلة الضحايا قائلاً:
“لم تتدخل القوات التركية أبداً في الموضوع، علماً أنّنا كنا قد ذهبوا إليهم بعد أخذْ الجثث إلى المشفى، لكنهم بدلاً من مساعدتنا قاموا بتهديدهم، فلم يتجرأ أحد فيما بعد اللجوء إليهم”.
لجوء ذوو الضحايا إلى تنظيم “هيئة تحرير الشام”:
خاف الأهالي وذوو الضحايا أنْ تتطور الأمور أكثر، خاصة وأنّ الجناة لم يهربوا ولم يختبئوا، بل حاول عناصر أخرى من فصيل الشرقية التدخل وقتل المزيد، لذا لم يبقى أمام ذوو الضحايا سبيل سوى الاستنجاد بتنظيم “هيئة تحرير الشام”، فحملوا جثمان الضحايا بعد أن قام إداريو المشفى برميهم في الخارج.
وتوجه الأهالي إلى بلدة “آطمة” القريبة التابعة لمحافظة إدلب، وهناك حاول عناصر الشرطة العسكرية منع الأهالي المرافقين للجثامين من التوجه إلى آطمة، إلا أنّ وصول عناصر تابعين لمجموعة “هيئة تحرير الشام” جعلهم يكملون سيرهم باتجاه البلدة، والتقى بهم زعيم الهيئة “محمد الجولاني”، وأقاموا تلك الليلة هناك.
وفي يوم 21 آذار/مارس عادوا برفقة عناصر من الهيئة إلى مدينة جنديرس، وتحولت المراسيم في تلك الأثناء إلى انتفاضة عارمة شارك فيها أبناء قرى المنطقة الذين أتوا من كل حدب وصوب.
بعد مراسيم دفن الضحايا ظهرت في الأثناء مطالب ذوو الضحايا في ستة بنود تمت قراءتها من قبل مسؤول في المجلس الوطني الكردي “أحمد حسن” أمام الحشد والكاميرات في خيمة العزاء والتي تلخصت بخروج الفصائل من منطقة عفرين وتوفير حماية دولية ومحاسبة الجناة وتسليم إدارة المنطقة لسكانها الأصليين وإطلاق سراج المعتقلين الكرد وإعادة الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها.
التهجم على امرأة في وسط الشارع:
تحدّث أحد المصادر “صلاح” لجمعية ليلون عن الانتهاكات التي قام بها فصيل “جيش الشرقية” والتي تقاطعت مع شهادة المصدر “ف. ب” وهو أحد سكان حي الصناعة الذي سمع عن شهود رأوا الحادثة قائلاً:
“قام أبو حبيب وهو قيادي في الفصيل قبل فترة بضرب زوجة “رشيد كهربجي” من قرية الحمّام في وسط الشارع بجنديرس، لأنّ المرأة بعد أن تهدمت شقتها بسبب الزلزال جاءت لتدخل منزلها العربي، فمنعوها وضربوها في وسط الشارع وأطلقوا الرصاص بالهواء، ولم يحرك أحد ساكناً”.
منع قرى كردية من الاحتفال بنوروز:
ويؤكد المصدر “صلاح” أنّه: “تكررت مضايقات الأهالي من قبل فصيل “جيش الشرقية”، فكان يقوم باستفزاز الأهالي وتهديدهم وإخافتهم بغية الحصول على الأموال منهم، كذلك قام الفصيل المذكور بمنع أهالي قرية “مسكة” وآغجلة التابعتين لناحية جنديرس من الاحتفال بعيد النوروز هذا العام وإشعال النيران، وكذلك الأمر في قرية “آشكان غربي” تحت تهديد الاعتقال”.
انتهاكات أخرى:
وفي بداية عشية نوروز تجوّل عناصر الفصيل في الأحياء التي تحت سيطرته في مدينة جنديرس في محاولة منهم لمنع الأهالي من إشعال النيران احتفالاً بالعيد. يقول في هذا الصدد المصدر “ف. ب” الذي سمع الخبر فيما بعد من جيرانه قائلاً:
“لقد حاولوا أنْ يتشاجروا مع أحد جيراننا وهي عائلة حنان جميل هورو، لكنّ تلك العائلة تجنبت الخوض في المشكلة ودخلوا إلى بيوتهم دون أية مواجهة معهم”.
عندما هدأت الحرب وتم احتلال عفرين من قبل تركيا والفصائل المعارضة السورية، عاد “فرح الدين” مع أخوته وعائلته إلى جنديرس، وكان فصيل “جيش الشرقية” قد استولى على منزله، إلا أنه عندما طالب باسترجاعه، تعرض للاحتجاز لبضع ساعات من قبلهم. في تلك الساعات التي أمضاها عندهم تعرّض لتعذيبٍ شديد جداً. ووفقاً لزوجة فرح الدين “ياسمين” أنه “بعد تلك الحادثة أصيب بمرض نفسي وبدأ يخاف كثيراً عند سماع أصوات الرصاص طيلة تلك السنوات الخمس”.
من هي عائلة “بشمرك”؟
يذكر أنّ عائلة عثمان التي تعرف باسم (بشمرك) تنحدر من قرية “قوده” التابعة لناحية راجو، لكن محمد عثمان (والد الضحايا) انتقل وهو في الخامسة عشر من عمره إلى قرية “هيكجة” إلى منزل جده من أمه، وبقي هناك حتى كبر ومنها انتقل إلى مدينة جنديرس وسكن فيها بعد أن تزوج. واكتسب محمد لقب “بشمرك” لإخلاصه في العمل وقوته البدنية حيث كان يعمل في مهن شاقة.
توفي رب الأسرة ” محمد عثمان” مخلفاً وراءه أربعة أولاد وثلاث بنات، الذين ذاقوا مرارة الفقر، لذا لم يتمكن أحد منهم من إكمال دراسته، فعمل الأبناء منذ الصغر في أعمال مختلفة ضمن مدينة جنديرس وقراها، ولم يهاجر أحد منهم إلى خارج الوطن، ولم تكن لهم خلافات ومشاكل مع الجيران بل كانوا محل احترام وتقدير لدى الجميع، كذلك لم ينخرطوا في السياسة والأحزاب.
مدينة جنديرس:
جدير بالذكر أنّ مدينة جنديرس[1] تقع غربي مدينة عفرين ب/20/كم على بقعة جغرافية منبسطة. يبلغ عدد سكانها قبل الاحتلال قرابة 45,000 نسمة، وتضم عدة قرى مختلفة، يعمل سكانها بالزراعة وخاصة زراعة الحبوب والبقوليات والخضار وأشجار الزيتون والرمان، ويوجد سوق هال تجاري خاص بالمدينة، فيها عدد من تجار الزيت والزيتون والحبوب، كما توجد فيها شبكة ري تسقي الأراضي الزراعية من سد ميدانكي (17 نيسان)، وتوجد فيها أكثر من /15/معصرة لعصر الزيتون. كما تتميز بكثرة الآثار منها تل جنديرس الأثري الذي يقع جنوب مركز البلدة.
وقد سقطت بلدة جنديرس في يد الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية في بداية شهر آذار 2018 بعد معارك طاحنة مع وحدات حماية الشعب YPG. ومنذ ذلك الوقت يعاني أبناء ناحية جنديرس كغيرهم من أبناء عفرين من الانتهاكات المتكررة من قبل تلك الفصائل.
[1] http://www.aleppo.gov.sy/ar/city/townships/52-bld-jndyrs