جيلان، قصة ولادة على طريق النزوح القسري

“لم يخطر في بالي يوماً أن أحمل حفيدتي الأولى بين ذراعيّ بينما أسير على طريق النزوح، مطرودة من أرضٍ عشنا فيها رغماً عنّا لأننا لم نجد فيها الأمان، ومن حياةٍ كنا نظن أننا تشبثنا بها بما يكفي. أن تحمل جدةٌ حفيدتها المولودة حديثاً وسط الرعب والبرد والضياع، هو مشهد لا تُصوّره الذاكرة بسهولة، لكنه أصبح فصلًا من فصول حياتي التي لم أتخيّل أن أعيشها يوماً في اثنين وخمسين عاماً من عمري”.

هكذا تصف جيلان، جدة الرضيعة التي وُلدت على طريق النزوح القسري الثاني لهم، تفاصيل الأحداث التي رافقتهم أثناء النزوح مع ولادة حفيدتها الأولى لباحث ليلون، وتكمل:

“نحن من مدينة عفرين في شمال سوريا، المدينة التي نشأنا فيها وأمضينا سنوات طفولتنا وشبابنا. كان لنا فيها أهلٌ وجيران وذكريات. لكن الحرب لم تستثنِ أحداً. مع بدء عملية “غصن الزيتون” التي نفذتها القوات التركية والفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري، تغيّرت حياتنا بالكامل. وجدنا أنفسنا مجبرين على ترك بيوتنا تحت وطأة القصف والخوف والانتهاكات، حالنا كحال آلاف العائلات من أبناء المنطقة. لم يكن أمامنا خيار سوى النزوح، فتوجّهنا إلى منطقة تل قراح في ريف حلب الشمالي، حيث استقرينا كسائر المهجّرين في البيوت المتهالكة والمخيمات.

رغم ضيق الحال وقسوة الظروف، كانت لدينا لحظات نور، وكانت زوجة ابني مروى إحدى هذه اللحظات. مع بشرى حملها بحفيدتنا الأولى التي كنا ننتظرها جميعاً بفارغ الصبر، وكأنها بشرى بالربيع في عزّ الخريف. لم نكن نملك المال الكافي لنشتري لها الملابس، فجلست أخيط لها بإبرة وخيط أثواباً صغيرة بكلتا يديّ، كل غرزة فيها دعاء، وكل قطعة أمل وسلام أرجوهما لهما.

لكن الريح لم تهدأ، والعاصفة عادت لتضربنا مرة أخرى. لم تمهلنا الحياة كثيراً. في شهرها التاسع، حين كنا نعدّ الأيام لوصول الطفلة، بدأ هجوم عسكري على منطقة شهبا من قبل فصائل الجيش الوطني. لم يكن أمامنا سوى الهرب، هربنا كما نحن بما نرتديه فقط، ومعنا ما نحمله في قلوبنا من خوف ورجاء. اختبأنا في عربة قديمة لأحد الجيران، ماضين نحو المجهول.

كانت مروى مرهقة، باردة، خائفة، ترتجف وهي تمسك ببطنها. جلستُ بجانبها، أمسح جبينها وأدعو الله أن تمر هذه المحنة بسلام، ألا يصيبها ضرّ في الطريق، وألا نقع في أيدي من هجّرونا، وألا نُجبر على العودة إلى أرضنا بلا ضمانات أمنية.

مرّت الساعات ثقيلة، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان.

بدأت مروى تصرخ من الألم فجأة. اشتد بها المخاض. لم أكن مهيأة لهذا، لم أدرِ ماذا أفعل. خرجت من العربة أركض وأصرخ: “أيها الناس، أيها العالم، هناك امرأةٌ ستلد، هل بينكم قابلة؟ ساعدونا!” لكن الطريق كان غارقاً بالخوف، بالموت، بالناجين الذين فقدوا قدرتهم على النجدة والاستيعاب من شدة الصدمة.

لم يجبني أحد، وكل من رأيته كان يمشي بعينين خائفتين، كما لو أن الحياة تجمدت في عروقهم. عدت إلى مروى وأنا خائفة، عاجزة، لا أعلم كيف أتصرف. وواصلت السير لساعات وأنا أبحث بين القافلة، أطلب المساعدة، لكن دون جدوى”.

وتكمل:

“في مساء اليوم الثاني، كانت مروى قد وصلت إلى حدّ الإنهاك، فأنزلتها من العربة، وضعت لها بطانية على الأرض تحت شجرة على جانب الطريق المؤدي إلى بلدة تل حافر، ووقفت أمامها أرتجف مثلها، لكنني مضطرة لأكون القابلة، أن أكون الأم واليد المنقذة.

صرخت مروى صرخة لا تشبه صرخات الألم المعتادة، كانت صرخة أمومة ممزوجة بالخوف والألم، كأنها تنادي الحياة أن تتمسك بها. بيديّ العاريتين، وبقلبٍ مثقل بالرعب، استقبلت الطفلة، الطفلة التي جاءت إلى عالم لا يشبه الأمان. بكى الجميع: مروى، الطفلة، وأنا. اختلطت دموع الفرح بولادة حياة جديدة، بدموع القهر على حياة تفتّت، وعلى وطنٍ لم يبقَ لنا فيه موطئ قدم.

لففنا الصغيرة ببطانية قديمة، واحتضناها كما يحتضن المرء أغلى ما يملك في هذا العالم. تابعنا رحلة نزوحنا حتى وصلنا أخيراً إلى منطقة الطبقة، إلى أحد المخيمات في شمال شرقي سوريا.

وهناك، قرر ابني أن يسميها “جيلان” تيمّناً بي، قال لي: “لقد ولدتِها أنتِ، أنتِ من أنقذتها، هي هديتك من الحياة”. كان يبكي حين نطق بذلك، وأنا كذلك. كان اسمها شهادة على الألم الذي عايشناه، وعلى المعجزة التي احتجناها لنتجاوز تلك المحنة بسلام.

ظننت لوهلة أن المعاناة قد تهدأ قليلاً، وأن حفيدتي ستبدأ حياتها بين أيدٍ آمنة. لكن الواقع كان أقسى مما توقعت. عدد النازحين كان كبيراً، والخيام امتلأت بالعائلات الهاربة مثلي، وكلٌّ يحمل وجعه. تأخر التوزيع، ولم تصل المساعدات في أيامها الأولى، وكانت الطفلة تبكي كثيراً من الجوع، بينما مروى مرهقة، جسدها لم يتعافَ بعد، ولم تتمكن من إرضاعها.

لم يكن لدينا حليب ولا حتى دواء، فقط الماء وبعض السكر الذي استطعت أن أدبّره من أحد النازحين. كنت أذيب السكر في الماء وأطعمه للصغيرة، أراقب عينيها وهي تفتحهما قليلاً ثم تعود للنوم من شدة التعب والجوع. سبعة أيام كاملة بلا غذاء مناسب، لم يكن لدينا شيء آخر. كنت أقول في نفسي: “يا رب، لا تجعلني أخسرها بعد كل هذا العناء والألم، لقد ولدتها بيدي، لا تأخذها مني”. وبعد مرور اليوم السابع، استطاع ابني أن يدبّر علبة حليب من المساعدات الإنسانية المقدمة للنازحين”.

وتختتم جيلان قصتها لباحث ليلون:

“كان كل يوم يمرّ بمثابة معركة للبقاء، وكنت أتشبث بها كما لو أنها الجزء الوحيد الحيّ من قلبي. وهكذا وُلدت حفيدتي على طريق النزوح القسري، وسط فوضى الحرب والتهجير، وداخل عراء الخوف، ولكنها وُلدت. وكان في ولادتها عزاء، وكان فيها وعد بأننا رغم كل شيء، لا نزال نعيش”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *