في ظل التغيرات السياسية التي شهدتها سوريا، ومع سقوط “نظام الأسد” وتحرر معظم المناطق السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تكتمل فرحة أهالي عفرين. فبعد مرور سنوات على سيطرة الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري في آذار/مارس 2018، أصبحت الانتهاكات في هذه المنطقة جزءاً من واقع يومي يثقل كاهل سكانها، وخصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة فصيل السلطان سليمان شاه، المعروف باسم “العمشات”.
تعيش منطقة عفرين حالة من الانتهاكات المنهجية المستمرة، التي تبرز في بعض القرى والنواحي بوتيرة متزايدة وملحوظة أكثر من غيرها -حسب الفصيل المسيطر-، حيث تلقت جمعية “ليلون” للضحايا نداءات متكررة من السكان المحليين في المناطق التي يسيطر عليها فصيل السلطان سليمان شاه (المعروف بـ”العمشات”) بقيادة محمد الجاسم “أبو عمشة” تطالب بتسليط الضوء على معاناتهم نتيجة الممارسات القمعية؛ كفرض الإتاوات الباهظة، الاعتقالات التعسفية، التعذيب، وصولاً إلى التهديد بأعراض النساء.
المنهجية:
يوثق هذا التقرير الذي أعده فريق “ليلون” شهادات ضحايا وشهود عيان ومقابلات أُجريت خلال شهري تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2024، ويكشف تفاصيل هذه الانتهاكات وتأثيرها العميق على الضحايا.
استند التقرير إلى مقابلات أُجريت عبر وسائل اتصال آمنة مع سكان محليين وشهود عيان من منطقة عفرين، مع ضمان إخفاء هوياتهم حفاظاً على سلامتهم، كما تمّ التحقق من الشهادات عبر مصادر متعددة لضمان الدقة والموضوعية.
إتاوات باهظة وأوضاع معيشية خانقة:
مع دخول موسم الزيتون، استمر فصيل “العمشات” بفرض إتاوات تعسفية على السكان، حيث لم يقتصر الأمر على جمع الضرائب تحت مسمى “الحماية”، بل أصبح يُطلب من كل عائلة تقديم “تنكة زيت”، فيما أجبر العائدون إلى قراهم على دفع مبالغ تبدأ من ألف دولار أمريكي؛ لقاء السماح لهم بالدخول. هذا الوضع أجبر الكثير من الأهالي على بيع ممتلكاتهم لتسديد الإتاوات، ومع ذلك لم يسلموا من المصادرة.
تحدثت أمينة مصطفى (اسم مستعار)، وهي من سكان قرية ياخور/كاخره التابعة لناحية شيه/شيخ الحديد لباحث في جمعية “ليلون” عن ممارسات الفصيل:
“قام فصيل العمشات مجدداً بفرض ضرائب على سكان القرية بشكل تعسفي، مما أجبر البعض على بيع ممتلكاتهم لتسديد الإتاوات، وقام الفصيل على إثره بالاستيلاء على سيارة مواطن من القرية يدعى محمد منان عبو لعدم قدرته على دفع الضريبة”.
الاعتقالات والتعذيب:
وأكدت الشاهدة باستمرار الفصيل فرض الضرائب على موسم الزيتون، مطالباً كل عائلة بتقديم تنكة زيت تحت مسمى الحماية:
“مع رفض الأهالي دفع الإتاوات لعجزهم عن ذلك، بدأ الفصيل بحملة اعتقالات طالت شباناً وكباراً في السن، منهم: (آزاد حسو، فرات قاسم، أحمد وقاص، ومحمد عبيد، وجميل محمود، وجميل قاسم، محمد منان، ونجيب حنان، وحمو وقاص)”.
وتم منع “حسن رشيد حنان” من الذهاب لأرضه، حيث أضطر إلى بيع سيارته وجراره الزراعي حتى استطاع دفع المبلغ المطلوب، رغم ذلك لم يسلم من الاعتقال والتعذيب.
وتحدث (مراد عمر – اسم مستعار) عن ظروف احتجاز أحد أقاربه، لجمعية “ليلون” قائلاً:
“تعرض المعتقلون لتعذيب شديد خلال ساعات اعتقالهم الأولى، مما أدى إلى إصابات جسدية بالغة إزاء الضرب المبرح لديهم”.
وتقول (يارا الأحمد-اسم مستعار) إحدى الشهود وأقارب أحد الضحايا الذين تعرضوا للضرب من قبل فصيل العمشات:
“قام صديق أخي بدفع مبلغ 6000 دولار من أصل 9000 وبعد عجزه عن دفع المبلغ كاملاً، تعرض الرجل للضرب المبرح مما تسبب له بإصابة بالغة في منطقة الظهر، ونتيجة لهذه الظروف، فرَّ الرجل مع عائلته، ليصبح مشرداً وبلا مأوى، وتتفاقم معاناته علاوةً على مشقته وعنائه”.
وفي شهادة أخرى لليلون من قرية ياخور/كاخره، أكدت الشاهدة (رزان عيسى-اسم مستعار) بأن الفصيل يجبر السكان على دفع الإتاوات بالقوة:
“يقوم فصيل السلطان سليمان شاه بالاستيلاء على سيارات وجرارات الأهالي وضرب الرجال بوحشية، في حال عجزهم عن دفع الإتاوات المفروضة عليهم، من ضمنهم العائدون الذين لا يملكون أي ليرة “.
وتكمل:
“علاوةً على الفقر المدقع الذي يعاني منه المهجرون العائدون إلى منطقة عفرين، لم يسلم العائدون إتاواتٍ الفصيل، حيث قال أحد عناصر الفصيل للعائدين العاجزين عن الدفع: اذهبوا وبِيعوا أعضائكم لتدفعوا”.
وفي حادثة أخرى، أُجبر أحد سكان القرية على دفع مبلغ 1800 دولار بعد احتجازه مع سيارته، ولم يتم اخلاء سبيله إلا بعد ان دفع المبلغ كاملاً، وعقوبة له بسيب تأخير الدفع فرض عليه دفع 100 دولار أخرى.
وتقول (سارة المحمد/اسم مستعار) إحدى الشهود التي تتحفظ ليلون على ذكر اسمه/ا لدواعِ أمنية:
“قام الفصيل باحتجاز جميع المعتقلين الذين عجزوا عن دفع الاتاوات لهم في سجن ناحية شيخ الحديد/شيه، حيث يتعرضون للتعذيب لعدم قدرتهم على دفع مبالغ تراوحت بين 12,000 و15,000 دولار أمريكي”.
تقول (ثريا الأحمد-اسم مستعار) إحدى الشهود من القرى التابعة لسيطرة العمشات:
“منع الفصيل المواطن يوسف مراد/اسم مستعار القادم من حلب من دخول قريته ياخور/كاخره ومنزله (تحفظت الشاهدة على ذكر اسم المواطن لدواعٍ أمنية)، بسبب عدم قدرته على دفع المبلغ المطلوب، مما اضطر للجوء إلى مكان آخر، بعيداً عن قريته ومنزله”.
وكذلك الأمر في القرى الأخرى، حيث تقول (ألمازه حسن/اسم مستعار) شاهدة وقريبة أحد الضحايا من قرية هيكچة:
“داهم الفصيل بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 2024 منزل المواطن المسن حنيف محو (70 عاماً) لإجباره على دفع إتاوة جديدة، رغم أنه دفع مبالغ عدة سابقاً، وبسبب ضيق أحواله المالية وعدم قدرته على الدفع، أطلق عناصر من الفصيل الرصاص على كلبه، قبل أن يقتادوه إلى السجن، كما قام الفصيل باعتقال مواطن آخر يدعى محمد حسين سليمان الذي يبلغ من العمر (40 عاماً)، بعد عجزه عن دفع الإتاوة للفصيل”.
وتكمل:
“طالت حملة الاعتقالات مواطنين آخرين من القرى الواقعة تحت سيطرة الفصيل المذكور، ففي تاريخ 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تمّ اعتقال المواطن نضال طانا الذي يبلغ من العمر 38 عاماً، حيث اعتقله الفصيل واقتاده إلى السجن لعدم قدرته على دفع الإتاوة رغم حالته الصحية الاستثنائية جراء حادث سيرٍ قديم، كما قام الفصيل باعتقال المواطن فيصل سعيد أحمد بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2024 لعجزه عن دفع الإتاوة، بالإضافة إلى مواطن آخر يدعى شكري حسن وابنه الذي فرض عليه الفصيل إتاوة بقيمة 12,000 دولار، رغم أنهم دفعوا مسبقاً مبالغ تتراوح بين 2,000 و3,000 دولار عدة مرات”.
وفي 20 كانون الأول/ديسمبر تم اعتقال المواطن فرح الدين (50 عاماً) ولازال معتقلاً دون معرفة مصيره بسبب عدم قدرته ع تأمين المبلغ.
وتضيف شاهدة أخرى (يارا إسماعيل/اسم مستعار) لباحث/ة ليلون حول عجز العائلات من دفع الإتاوات وقيامهم ببيع مقتنياتهم الخاصة، قائلة:
“تضطر بعض العائلات لإخراج حلقات الذهب من آذان طفلاتهن الصغيرات لتسليمها للفصيل كجزء من الإتاوات، لقد أفرغوا جيوب السكان، أنهم يقومون بمص دمائنا وأطفالنا، لم يعد لدينا ما ندفعه لهم، أما الدفع وإما السجن والاعتقال والضرب”.
وفي قرية “سنارة” تقول إحدى قريبات الضحايا: “تمّ اعتقال أشخاص آخرين مع قريب زوجي، وهم فخري شيخو رشيد، عبدو كمال كني، وعبدو حقلي”.
ونقلاً عن شهود لـ “ليلون” من قرية قرزيحل التابعة لناحية شيراوا والتي تقع تحت سيطرة الفصيل ذاته، فرض فصيل السلطان سليمان شاه إتاوة قدرها أربعين دولار أمريكي على كل عائلة من القرية بعد مقتل نازحٍ ورؤية جثته في إحدى حقول القرية في ظروف غامضة.
كما كشفت مصادر خاصة لليلون عن أسماء بعض المتورطين بانتهاكات حقوق الإنسان من فصيل السلطان سليمان شاه، المدعو “فادي أبو مالك” وهو شقيق محمد الجاسم (أبو عمشة)، وحسب ما أوضحته المصادر، يقوم المدعو أبو مالك بالإشراف على تنفيذ جميع قرارات الفصيل التي تتضمن الإتاوات والاعتقالات بحق المدنيين في قرية كاخره/ياخور، كما يعتمد أفراد الفصيل ألقاباً بدلاً من أسمائهم الحقيقية، مثل أبو يزن، وأبو المصعب، مما يصعب التعرف عليهم.
النساء في مرمى انتهاكات الفصيل:
بعد عجز السكان عن دفع الإتاوات الباهظة للفصيل، هدد أحد العناصر أهالي المنطقة بنسائهم مقابل الإتاوات، حيث تقول (فاطمة محمد-اسم مستعار) إحدى الشهود لليلون:
جاء عناصر من الفصيل إلى رجال القرية وهددوهم بأن عليهم دفع المبالغ المترتبة عليهم أو سيقومون باعتقال نسائهم، وبتاريخ 22 كانون الأول/ديسمبر 2024، قام الفصيل باعتقال أربعة نساء ينحدرن من قرية مرونيه، من بينهم مسنة تبلغ من العمر 60 عاماً”.
الهروب إثر العجز والانتهاكات:
عقب التهديدات المتكررة وحملة الاعتقالات التي طالت عدد كبير من المدنيين، أكدت مصادر خاصة لليلون من عدة قرى يسيطر عليها الفصيل المذكور بفرار عدة عائلات بأكملها لعدم مقدرتهم ع دفع الإتاوة وخوفاً من الاعتقال، وشملت تلك القرى كل من كاخرة وسنارة وأنقله وهيكچه ومرونيه.
كما أضطر المواطن “سفر العلي” للهروب من منزله، بعد فرض الفصيل ضريبة بقيمة 15,000 دولار. ليصادر الفصيل قطيعه من الأغنام وحماره. وعندما حاولت ابنته منعهم، هددها العناصر بالسلاح. ليضطر ابنه “إبراهيم العلي” الهروب للالتحاق بأبيه.
وكذلك أيضاً “قازقلي شبخو” و “حسين دالو” حيث تجاوزت الضريبة المفروضة عليهم 15 ألف دولار أمريكي.
وحسب التقارير والمقابلات التي جمعها باحثي/ات ليلون من شهود ومصادر من المنطقة، تتزايد نسبة الانتهاكات في المناطق التي تقع تحت سيطرة فصيل السلطان سليمان شاه “المعروف بالعمشات”، والتي تتضمن فرض إتاوات ضخمة على الأهالي بمبالغ تفوق قدراتهم وحملة اعتقالات وفرض فدى مالية لقاء إطلاق سراحهم.
غياب الحلول:
في ظل الانتهاكات المستمرة وتفاقم معاناة الأهالي، تعكس الشهادات الموثقة مدى تردي الأوضاع الإنسانية وغياب أي أفق للحل في المناطق الخاضعة لسيطرة العمشات، مما يدفع بالمزيد من الأهالي إلى البحث عن ملاذ بعيد عن قراهم، علاوةً على تردي أوضاعهم الاقتصادية و المخاطر الأمنية التي تواجههم.
يعكس هذا التقرير واقع السكان الذي يعيشونه في مناطقهم، والمعاناة المتفاقمة إزاء عدم وجود أي حلول أو ضمانات، هو الأمر الذي يستدعي تدخلاً دولياً فورياً للحد من الانتهاكات، محاسبة الجناة، وتحقيق العدالة للضحايا.