عقد مركز اتحاد مثقفي روجآفايي كردستان (HRRK) بقامشلو ندوة ثقافية وفنية إحياءً للذكرى الثانية عشر لرحيل الفنان الشعبي “محمد علي تجو” تحت عنوان “محمد علي تجو ذاكرة جياي كورمينج“، وبدأت الندوة بعرض فيلم وثائقي عن حياة الفنان الراحل وأهم مراحل حياته ومقتطفات من أغانيه وبعضاً من أقواله المأثورة.
تطرّق المتحدثون إلى غنى التراث الشفهي بشكلٍ عام والفن الغنائي الملحمي بشكلٍ خاص في منطقة عفرين منذ القدم، حيث توارثَ الأجيال هذا التراث الفني عن أسلافهم وأجدادهم ونقلوه من جيلٍ إلى جيل، بسرد القصص الملحمية القديمة، وتحويل قصص وأحداث اجتماعية وسياسية وتاريخية إلى أغاني ملحمية سلّطت الضوء على تفاصيل هامة فيها.
بعدها تحدث الحضور عن أهم المحاور والمواضيع التي تناولها الراحل “محمد علي تجو” خلال مسيرته الفنية الطويلة والأساليب التي اتبعها في التأثير على الناس ليغدو بذلك مدرسةً بحدّ ذاته، ما يزال يسير على خطاه وأسلوبه العديد من الفنانين والمغنين الشباب.
وأجمع المتحدثون أنّ الفنان الراحل هو “فنان الحب”، غنى للحب بكل قواه، بما فيه حب الوطن والإنسان، والأصالة، والبطولة والطبيعة والعدالة والمجتمع والحرية، وكانت هذه المواضيع محتوى جميع أغانيه وأحاديثه الشيّقة التي كانت تسبق الغناء الملحمي، وهذا ما يميز أسلوبه عن الذين سبقوه.
وأكّد المتحدثون أنّه ليس مجرّد فنان ومغنٍ شعبي، بل تجاوز الفنان ذلك بخطاباته التي سعى فيها لتطوير مجتمعه وانتقاد الجوانب السلبية في العلاقات الاجتماعية السائدة، كما أنّه كان من أشدّ مناصري حرية المرأة الكردية، وظهر ذلك جلياً في الكثير من أقواله وأغانيه، حيث يقول في هذا الصدد: “لا تجبروا الفتيات على الخضوع لقراراتكم! لا تضغطوا عليهن ولا تظلمهن!”.
وقد وصفه المتحدثون بأنّه كان سابقاً لعصره في أطروحاته وأفكاره التحرّرية وسعيه نحو التطور وتحسين الوضع الاجتماعي لشعبه، رغم أنّه كان أمياً لا يجيد القراءة والكتابة، إلا أنّه كان يجيد التحدث بثلاث لغات؛ الكردية والعربية والتركية، وهذا دليل على مستواه الثقافي الرفيع.
وشدّد الباحث “وليد بكر” إلى أنّه كان يعتمد في أعماله الفنية على الكلمة التي كان يختارها بعناية فائقة وبلغة يفهمها الجميع: “كان ماهراً في استخدام الكلمة، واستطاع بأسلوبه الخطابي أن يؤثّر بشكلٍ كبير على الجمهور. معظم متابعي فنّه هم من عشاق كلامه ونصائحه وحكمه، حتى وصل الأمر بالناس إلى أنْ أصبحت عباراته بمثابة حكم وأمثالٍ شعبية ونصائح يستخدمونها في أحاديثهم“.
كما أنّه مجّد البطولة والأبطال، واستحق في هذا المجال أنْ يكون “ذاكرة جياي كورمينج”، حيث قام بتسجيل العديد من الأحداث الاجتماعية والسياسية على مستوى كردستان بشكلِ عام وفي منطقة عفرين بشكلٍ خاص، هذه الأحداث والوقائع التي لم يتمكن الكتّاب والمؤرخون والباحثون من تدوينها لأسباب عديدة.
ومن الوقائع وقصص البطولة التي جرت في منطقة عفرين وقام بتوثيقها بصوته محادثةً وغناءً: قصة المتمرّد على الدولة العثمانية “سيدي مامش” من معبطلي/موباتو، وتمجيد “مصطفى جولاق” أحد أهم الثائرين ضد الانتداب الفرنسي، وبعض القصص والأحداث الاجتماعية التي جرت مثل: قصة “رقيب أحمد، وقصة صالان، وقصة موت الأخوين خليل وحنان، ورثاء بكر حبش من بعدنلي/بعدينا، إضافة إلى بعض الأحداث التي أثّرت على المشهد السياسي الكردي، مثل: انتفاضة “الشيخ سعيد” و”ليلى قاسم“.
كما ذكر المتحدثون أنّ الراحل كان يشدّد في فنه وأحاديثه على الأصالة والتمسك بالتقاليد الأصيلة، مسرداً أمثلة عن الحصان الأصيل والبلبل وغيرها قاصداً بها الإنسان الأصيل والمبدئي.
يذكر أنّ منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة قد دعته عام 1976 للمشاركة في لقاءات فنية لفنانين من شعوب العالم، فزار فرنسا وهولندا على مدار خمس سنوات متتالية، ليقدم خلالها فنونه في الغناء والعزف على الطنبور.
الجدير بالذكر أنّ أهالي منطقة عفرين بعد التهجير القسري إثر احتلال المنطقة في عملية “غصن الزيتون” التركية عام 2018، قد فقدوا الكثير من تراثهم المادي واللامادي، ولم يعد باستطاعتهم حتى زيارة قبور فنّانيهم في ذكرى وفاتهم، كما أنّ معظم الفنانين قد تعرضوا للتهجير القسري كغيرهم من أبناء المنطقة، ولم يبقى لهم مكان آمن ليمارسوا فنونهم وأغانيهم الخاصة وحفظها.
ويتعرض التراث الثقافي لمنطقة عفرين للضياع والزوال لأسبابٍ عدّة، أهمها عمليات التغيير الديموغرافي التي تجري في المنطقة باستمرار بعد تهجير الفنانين والعاملين في المجال الثقافي قسرياً، وضياع العديد من الأغاني الفلكلورية المسجلة، وعدم وجود مؤسسات قوية تدعم الاهتمام بالتراث الغنائي الشعبي وحفظه، إضافة إلى الممارسات الممنْهجة التي تقوم بها سلطات الأمر الواقع في منطقة عفرين المتمثلة بالفصائل العسكرية والمجالس المحلية التي تتبع للحكومة السورية المؤقتة للتضييق على السكان الأصليين لدفعهم على الهجرة.
كما أدى الاختلال في التركيبة السكانية للمنطقة نتيجة الهجرة الكبيرة لمكوناتٍ من خارج المنطقة إليها والذين جاؤوا بثقافة جديدة مغايرة لثقافة السكان الأصليين، إضافة إلى منع تلك السلطات بإقامة مؤسسات ثقافية خاصة بالسكان الأصليين تهتم بالفن والتراث.