شهدت مناطق شمال شرقي سوريا عقب العملية العسكرية الأخيرة في سوريا، موجة نزوحٍ جديدة لأهالي منطقة عفرين، في إطار ما يُعرف بـعملية “فجر الحرية”، التي استهدفت مناطق سورية عدة، من ضمنها منطقة “الشهباء” التي كانت تعتبر مقصداً مؤقتاً للمهجرين قسراً من أهالي منطقة عفرين عقب عملية “غصن الزيتون” على منطقتهم، والتي أدت إلى تهجير قسري واسع النطاق للسكان الأصليين وانتهاكاتٍ متعددة الأنماط ضد الأهالي المتبقين في المنطقة، من قبل الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري.
أعلن الجيش الوطني السوري عمليته العسكرية “فجر الحرية” في أوائل ديسمبر 2024، والتي استهدف خلالها مناطق الشهباء ومنبج، بالتزامن مع إطلاق غرفة العمليات العسكرية لعملية “ردع العدوان” والتي تضم قوى مسلحة تنطوي تحت مظلة هيئة تحرير الشام.
وبالتزامن مع تحرير سوريا والإفراج عن المعتقلين في السجون التابعة للنظام السابق، ورجوع عدد كبير من المهجرين قسراً إزاء انتهاكات النظام السابق ضدهم إلى مسقط رأسهم، تعرض أهالي منطقة عفرين لموجة نزوحٍ جديدة، والتي أدت إلى تداعياتٍ نفسية وجسدية مضاعفة وكارثة إنسانية متفاقمة إزاء التهجير الثاني، حيث أجبر عدد كبير من الأهالي المشي على الأقدام لمدة ثلاثة أيام، للوصول إلى مناطق شمال شرقي سوريا، ومنهم من اختار العودة إلى منطقة عفرين، عقب العملية الأخيرة والتهجير المتكرر للأهالي، وسط عدم وجود أي حلول تلوح في الأفق لوضع ضمانات للعائدين والمقيمين في المنطقة على حدٍ سواء، للضغط على الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني للحد من انتهاكاتها.
أماكن توزع المهجرين وأعدادهم
مع إطلاق فصائل الجيش الوطني عمليتها العسكرية وحركة النزوح الجديدة التي شهدتها مناطق شمال شرقي سوريا، قام باحثو ليلون بإعداد إحصائية للأهالي المتواجدين في مناطق شمال شرقي سوريا، والتي بلغ عددها 24,431 عائلة، توزعوا على مناطق سورية عدة وهي التالية:
– محافظة الرقة: 7,000 عائلة
– منطقة الطبقة: 8,000 عائلة
– منطقة عين العرب/كوباني: 834 عائلة
– محافظة الحسكة: 2,439 عائلة
– منطقة القامشلي/قامشلو: 2,853 عائلة
في حين أجبر عدد كبير من المهجرين قسراً على التوجه صوب محافظة حلب بدافع الاستقرار في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، إزاء الأعداد الهائلة للنازحين وعدم قدرة الإدارة المحلية والمنظمات العاملة في تلك المناطق على استيعابهم، وتأمين المستلزمات الأساسية لهم. حيث بلغ الأهالي العائدين 1,273 عائلة.
كما قام باحثو ليلون بإعداد إحصائية خاصة عن العوائل العائدة إلى منطقة عفرين بعد العملية العسكرية الأخيرة، والتي قاربت 2,032 عائلة عائدة إلى المنطقة إلى لحظة إعداد هذا التقرير.
انتهاكات موثقة ضد المهجرين
استناداً إلى المقابلات التي قام بها باحثو ليلون مع المهجرين قسراً في تلك المناطق، تعرض الأهالي لانتهاكاتٍ متعددة أثناء رحلة نزوحهم من منطقة الشهباء إلى مناطق الطبقة والرقة والحسكة ومناطق سورية أخرى.
تقول ناريمان أحمد لليلون:
“عند وصولنا إلى منطقة دير حافر مروراً بالشيخ نجار، رأينا العديد من الجثث المحترقة التي كان يتدفأ حولها عناصر مسلحة تابعة للجيش الوطني السوري، اقترب نحونا عنصر من الجيش الوطني السوري وقام بوضع السكين على رقبة أخي ليعترف ما إذا كان عسكرياً أم لا، ثم قام بضرب السيارة بسكينه ليتركه وشأنه فيما بعد، كما قاموا بأخذ عدة سيارات من الأهالي بذريعة أنهم عسكريون”.
وتقول سارة عمر، المهجرة من الشهباء وتقيم في منطقة القامشلي:
“اعترضت عناصر من الجيش الوطني السوري قوافلنا وهدد البعض منهم بأنهم سيلاحقوننا إلى مناطق شمال شرقي سوريا وسيحاسبوننا هناك، في حين قال آخر (هل هناك أي نساء جميلات بينكم لنستمتع معهن) وقاموا بالإشارة نحونا بإصبع السبابة بطريقة غير أخلاقية”.
ويشير محمد أسعد في شهادته لليلون إلى تعرض بعض الأهالي لمصادرة ملكياتهم الشخصية:
“عند اعتراض فصائل الجيش الوطني السوري لقوافل المدنيين المتجهة صوب الطبقة والرقة، قام أحد العناصر بإخراج بعض الأهالي من سياراتهم ومصادرتها تحت مسمى أنها سيارات عسكرية، كما تمت مصادرة عدة دراجات نارية أخرى بنفس التهمة تحت تهديد السلاح”.
كما قام باحثو ليلون بتوثيق (146) حالة اعتقال للعائدين وبعض الأهالي العالقين في منطقة الشهباء، و(18) مفقود من المهجرين قسراً أثناء العملية العسكرية التي استهدفت منطقة الشهباء.
الكارثة الإنسانية المتفاقمة
يعاني المهجرون قسراً في مناطق شمال شرقي سوريا من كارثة إنسانية، بسبب ضعف الاستجابة والأعداد المكتظة للمهجرين في ظل التطورات السياسية والعسكرية التي تشهدها سوريا.
ونشرت منظمة أطباء بلا حدود تقريراً لها، تشير فيه إلى نزوح أكثر من 80,000 شخص نحو مناطق شمال شرق سوريا، بعد إطلاق الجيش الوطني السوري عمليته العسكرية تحت مسمى “فجر الحرية”، والتي استهدفت خلالها منطقة “الشهباء” التي اعتبرها المهجرون مقصداً لهم عقب عملية “غصن الزيتون” على منطقتهم عفرين.
وأشار التقرير إلى الأوضاع المأساوية التي يعاني منها الأهالي، منها اكتظاظ المدارس والملاعب بالمهجرين قسراً، في ظل البرد القارس وغياب الأساسيات كـ(البطانيات ولوازم التدفئة) وافتقار المرافق للمراحيض والغذاء ومياه الشرب.
وفي ظل الواقع المأساوي والمعاناة المتفاقمة، أدى التهجير القسري والاستجابة الضعيفة إلى فقدان طفلٍ لحياته. تقول يارا أحمد، قريبة الطفل نوح:
“بعد رحلة تهجيرٍ قاسية ومتعبة، فقد الطفل ‘نوح رشو’ البالغ من العمر أربعة أشهر، حياته. وصلت عائلة الطفل إلى مناطق شمال شرقي سوريا بعد ثلاثة أيامٍ من عناء البرد والجوع والعطش، واستقرت في مركز إيواءٍ في ملعب الرقة البلدي، كان الجو بارداً للغاية ولم تصل المساعدات آنذاك إلى جميع المهجرين بسبب الأعداد المكتظة في مراكز الإيواء والاستجابة الضعيفة”.
ويقول سعد يوسف لباحث ليلون:
“رأيت طفلة صغيرة تبلغ من العمر خمسة أشهر قد ماتت في أحضان أمها بسبب البرد القارس، وقد قامت الأم بدفنها في أرضها على الطريق المؤدي نحو دير حافر”.
العودة القسرية ومخاطرها
بالتزامن مع التحاق عدد كبير من المهجرين قسراً بقوافل شمال شرقي سوريا، عادت عوائل مهجرة إلى مسقط رأسها في عفرين، وسط عدم وجود ضمانات، وتعرض البعض منهم للاعتقال وعدم استطاعتهم استرجاع أملاكهم.
تقول شهيرة إسماعيل، لمهجرة قسراً من منطقة الشهباء إلى حلب:
“عند التحاقنا بقافلة المهجرين من منطقة تل رفعت إلى شمال شرقي سوريا، اعترض عناصر من الجيش الوطني طريقنا وأجبرونا على العودة إلى عفرين، شعرنا بالخوف من المجازفة بعد اعتقالهم عدداً من الشباب المتواجدين ضمن الرتل، وقام عناصر آخرون بشق ثياب الشباب لرؤية ما إذا كانوا مجروحين أو هناك أي علامات توحي إلى حملهم السلاح، لنخرج من القافلة برفقة بعض السيارات ونختار العودة إلى منطقة حلب”.
ويقول محمد يوسف لباحث ليلون عن تفاصيل اعتقال بعض أقربائه:
“تعرض أحد أقربائنا للاعتقال من قبل الشرطة العسكرية في منطقة عفرين، لعدم استطاعتهم الالتحاق بقافلة الأهالي أثناء تواجدهم في الشهباء، وبعد مطالبة العائلة أحد المقيمين في منزلهم الواقع في مركز المدينة بإعادة بيتهم لهم، رفض الرجل الخروج من المنزل إلا بعد دفعهم فدية مالية كبيرة لقاء خروجه من بيتهم، ليختاروا تأجير منزلٍ في المدينة لعدم استطاعتهم دفع المبلغ”.
وتقول سامية حسن لباحث ليلون عن تفاصيل اعتقال عمها وأشقاء زوجها:
“تعرض عمي وأشقاء زوجي الثلاثة للاعتقال أثناء عودتهم من منطقة تل رفعت إلى عفرين بعد اعتراض فصائل الجيش الوطني لرتلهم وتقديمهم ضماناتٍ أمنية لهم بعدم تعرضهم لأي سوء، وفور وصولهم إلى بيت أقاربهم في عفرين، جاءت دورية من الشرطة العسكرية وقامت باعتقال عمي وأشقاء زوجي، لقد تعرض عمي المسن للتعذيب الشديد، ولا يقوى المشي على قدميه إلى اللحظة ولا يزال طريح الفراش، بعد دفعنا فدية مالية 250 دولار أمريكي لهم، وتم الإفراج عن أشقاء زوجي الآخرين بعد دفعنا 700 دولار أمريكي، كما أنهم يعجزون عن استعادة منزلهم بسبب طلب قائد فصيل يتبع لفرقة الحمزة إياهم بدفع مبلغ 4500 دولار أمريكي لقاء السماح لهم بالسكن في منزلهم”.
وتضيف:
“التحقنا بالرتل من منطقة الأحداث برفقة عائلتي وزوجي، واعترض عناصر من فصائل الجيش الوطني القافلة وقاموا باعتقال عددٍ من الشبان، من بينهم رجلٌ مختل العقل يبلغ من العمر 35 عاماً وكان يعمل في ناحية الأحداث لدى والده في محل المونة، أمسك به عنصر وقام بوضعه على الأرض وإطلاق الرصاص بجانب أذنه والاستهزاء به، وقاموا بالبصق في وجه امرأة مسنّة عند طلبها أن يتركوا ابنها الوحيد وشأنه”.
تداعيات النزوح المتكرر
يعتبر التهجير القسري المتكرر لأهالي منطقة عفرين انتهاكاً لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، حيث أدى هذا السلوك إلى معاناة إنسانية كبيرة ومتفاقمة. وقد فقد المهجرون أراضيهم ومصادر رزقهم، ما ساهم في تفاقم أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
علاوة على ذلك، تسبب التهجير في تغيرات ديموغرافية قسرية، مما أثر على النسيج الاجتماعي والثقافي للمنطقة. كما يواجه المهجرون تحدياتٍ نفسية كبيرة، لانعدام الاستقرار النفسي لديهم بسبب الصدمات المتكررة.
ووفقاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يُحظر نقل السكان قسراً من مناطقهم، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا في حالات استثنائية مرتبطة بحماية السكان من خطر وشيك.
كما أن المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعتبر التهجير القسري جريمة ضد الإنسانية إذا كان يتم بطريقة منهجية وعلى نطاق واسع. وفي حالة منطقة عفرين، تشير الوقائع إلى وجود نمط ممنهج يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، مما يعزز احتمالية تصنيف هذه الانتهاكات كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وبناءً عليه، يتوجب على الجهات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، التحقيق في هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها. كما أن ضمان حقوق المهجرين، بما في ذلك حقهم في العودة الطوعية الآمنة إلى منازلهم وتعويضهم عن الأضرار، باعتبارها التزاماً قانونياً وأخلاقياً يقع على عاتق المجتمع الدولي.