ضريح النجاة: حين لم يعد النزوح منفذاً للخلاص
في إحدى القرى الهادئة في منطقة عفرين السورية، ولد عبدالرحمن خليل مرشد في قرية مسكه التابعة لناحية جنديرس عام 1966، ترعرع وسط عائلة طيبة السمعة وطبقة ميسورة الحال، درس المرحلة الثانوية وتخرج من ثانوية ناحيته جنديرس، فيما بعد، التحق بكلية الحقوق في جامعة بيروت اللبنانية وقام بتعليق دراسته في السنة الثانية والرجوع إلى سوريا إثر الحرب اللبنانية. عمل كتاجر في شبابه ونشط في المجال السوري كناشط مستقل ما قبل بدء الثورة السورية. تعرض للاعتقال عدة مرات في التسعينات (خلال عامي 1993- 1994) على يد النظام السابق، إثر مناصرته لمعتقلي الرأي من الكرد والسوريين، وبعد الإفراج عنه، قرر أن يعمل كوسيطٍ لوضعه الميسور من أجل مناصرة سجناء الرأي الذين تعرضوا للاعتقال بشكل تعسفي، وتقديم يد العون لهم عبر جهوده الذاتية ويتم الإفراج عنهم، بشكلٍ سري.
“كان إنساناً مؤمناً بنفسه ومعروفاً بإنصافه ودعمه لكل ثائر و مظلوم. كان يلقب بالجندي المجهول للسوريين من قبل جميع زملائه الإعلاميين والنشطاء ما قبل الثورة، لجهوده الجبارة في مد يد العون بشكلٍ سري للسجناء الذي اعتقلوا على خلفية آرائهم المناهضة للنظام السابق أو انتمائهم العرقي ” هكذا تصف ابنته “جيندار” والدها المرحوم عبدالرحمن مرشد، وتكمل:
“كنا نعيش حياةً هادئةً وجميلة في قريتنا “مسكه” التابعة لناحية جنديرس، إلى أن بدأت عملية “غصن الزيتون” في آذار/مارس 2018 على مناطقنا وأجبر أبي كغيره من الأهالي والعوائل على النزوح قسراً من المنطقة، وصلنا إلى منطقة الشهبا الواقعة في الريف الشمالي لمدينة حلب السورية، ثم قررنا الذهاب إلى مدينة القامشلي فرميلان. لم يحتمل والدي مرارة البعد هناك، واختار الرجوع إلى شهبا لقربها من منطقتنا عفرين وتمسكه بأمل العودة إلى أرضه يوماً ما، عودةً كريمةً طيبة.
قضى ستة أعوامٍ في منطقة شهبا في بلدة “تل قراح” ملئها الحنين ومتمسكاً بأمل الرجوع، عمل كتاجرٍ وناشطٍ مستقل بعيداً عن التناحرات والأجندات السياسية وأطراف النزاع، كان رجلاً معروفاً بكرمه وحسن خلقه وثقل شخصه بين جميع من عرفه من مختلف الأعراق والانتماءات في سوريا، لموقفه النبيل وحياديته المطلقة، ومناصرته للحق و رفضه لكل أشكال العنف.
لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن. مع تصاعد الاشتباكات والقصف مجدداً إزاء العملية الأخيرة في جميع أنحاء سوريا، انتشر خبر مفزع بين مهجري عفرين في شهبا بين ليلةٍ وضحاها”على الجميع مغادرة منطقة شهبا خلال بضعة ساعات وإلا ستقعون بين يد الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري ممن يسيطرون الآن على منطقة عفرين”. كان الخبر كالصاعقة، ولم يترك مجالاً للتفكير أو التخطيط. همَّ والدي بإعداد سيارته برفقة العائلة، ملتحقين مع آلاف النازحين في قافلة طويلة تتطلع للنجاة.
كان الخوف يلتهم أفئدة الأهالي، و القافلة لم تتحرك، والناس محاصرة بين المجهول والقلق. إلى أن اعترض عناصر مسلحة من فصائل تتبع للجيش الوطني السوري قافلة الأهالي وقطعوا الطريق أمامهم.
كان الأهالي في خوفٍ ويأسٍ كبيرين بأن ينجوا، بعد يقينهم أنهم لن يصابوا بأي مكروه عقب الاتفاق الذي تم بفتح معبرٍ إنساني وعدم تعرض المدنيين لأي أذى أو ضرر من قبل أي جهات مسلحة.
فجأة، عمّت الفوضى في الأرجاء بعد أن جاءت عناصر مسلحة واقتحمت الرتل والسيارات واعتقلت المدنيين وأنزلوا الشباب والرجال. كانت الناس تهرع في كل اتجاه، وهم يصرخون: “لقد وصلوا إلى القافلة!” و”إنهم يبحثون عن الشباب والرجال ليأخذوهم ويقتلوهم!” كان الهلع سيد الموقف. إلى أن جائوا إلى سيارة والدي وحاصروه من كلتا الطرفين، خبط أبي المقود بقبضتيه ولم تعمل سيارته، ليخرج مسدسه ويطلق النار على نفسه. اختار كرامته على أن يقع ذليلاً بين أيديهم.
دوّى صوت الطلق في أرجاء القافلة، فهرع الجميع ليكتشفوا الكارثة. حاولت العائلة إسعافه، لكن ازدحام الطرق وانعدام الخدمات حال دون إنقاذه. ليغادر والدي بعيداً إلى دار الحق”.
وتضيف “جيندار” في شهادتها لليلون، قائلة:
“بعد ساعات من الانتظار، فُتح الطريق أخيراً. قام عمي بنقل جثمان والدي إلى سيارته. والدموع تغمر الجميع، بين نحيب الفقد و ألم النزوح، مجدداً. وصلت القافلة إلى الطبقة، ثم إلى الحسكة التي اعتبرها وجهته ما إذ وصل، حياً.
دُفن والدي عبد الرحمن مرشد في قبر بعيد عن مسقط رأسه، تاركًا ذكرى أليمة وأثراً جميلاً وطيباً لنا ولكل من عرفه، وقصة نزوح لا تُنسى، كانت آخر جملةٍ له وهو في القافلة: أفضل الموت بكرامة على أن أقع في يد أحدٍ من الفصائل وأصبح ضحية إذلالهم، وهذا ما فعله بالفعل.
إن مأساة أهلنا تعتبر كارثة إنسانية بمعنى الكلمة، أتذكر موقف وصولي إلى مدينة الطبقة و رؤية أهالينا المهجرين قسراً في حالةٍ يُرثى لها، أطفالٌ يبكون من الجوع ونساءٌ وشيوخ يمكثون في العراء وسط البرد القارس، ورجالٌ تناشد الله ولا تدري إلى أين تمضي. شعرت آنذاك بألمٍ عميق وانهمرت دموعي فور رؤيتي للموقف، في تلك اللحظة، شهدت بنفسي كيف توحدت وتآلفت أرواح وقلوب شعبنا السوري من كل كردي وعربي ومسيحي ومسلم في حضرة المعاناة والألم، وتشارك الجميع بجهوده الذاتية والإمكانيات المتاحة المسؤولية لخدمة أهلنا. رأيت الحشود التي تتوحد لعون ومساعدة أهالينا من جميع الأطياف”.
وتختتم “جيندار” شهادتها لليلون عن وضع الأهالي المهجرين، قائلةً:
“لقد سئم أهالينا من مرارة البعد والنزوح القسري المتكرر إلى المجهول ما بين الحين والآخر، لم تندمل جراح أهلنا من التهجير الأول إزاء عملية غصن الزيتون منذ سبعة أعوام مضت.
إن جميع الأهالي الذين اختاروا قسراً البقاء في منطقة شهبا إنما كانوا على أمل عودةٍ آمنة وكريمة لمسقط رأسهم، لم تلتئم جراحنا بعد لنعيش المأساة مجدداً وبألمٍ ومعاناةٍ مضاعفة، إن هذه هي التجربة الثانية التي مر فيها أهالي منطقة عفرين وتعتبر أقسى من الأولى بالنسبة للجميع، لأن الأهالي كانوا على أمل العودة في التهجير الأول والآن فقد أغلبهم ذلك الأمل وسط عدم وجود أيّة حلول تلوح في الأفق”.