حين أسترجع ذكرياتي الماضية في عفرين، أشعر بغصّةٍ كبيرة تملأ أرجاء قلبي، حتى أنّني لست أقوى على الإفصاح عن تفاصيل حياتي السابقة. كانت حياتنا جميلة حقاً! كنت بصحبة أولادي وزوجي نعيش حياةً مستقرّة، وأوضاعنا المادية كانت جيدة للغاية. كان زوجي تاجراً ويملك صالة ألبسةٍ كبيرة بشارع الفيلات في عفرين المدينة، وأمورنا كانت تسير على ما يرام إلى أنْ حلّت علينا اللّعنة!
بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2018 – التاريخ الأسود الذي لا يرحل من ذاكرتي. كنت آنذاك في زيارةٍ لبيت عائلتي برفقة أطفالي، وأثناء حلول وقت الغداء، سمعنا صوتاً يهزّ أرجاء المنزل بقوة، فسارعنا بالهروب إلى الغرفة الخلفية، وأجهشنا بالبكاء بعد أنْ شعرنا بخوفٍ كبير. عندها قام شقيقي “أحمد” بالذهاب إلى خارج المنزل ليتقصّى مصدر الصوت، فإذ كانت غارةً جوّية تركية على منطقتنا.
منذ ذلك اليوم، خيّمت حالةٌ من الخوف والذّعر التّام عليَّ وعلى أولادي. كانت أيّاماً عصيبةً للغاية، يوماً بعد يوم تراجع وضعي ووضع أطفالي النفسي بسبب الخوف والتشنّج جرّاء أصوات القصف وسماع أنباء عن سقوط ضحايا نتيجة القصف العشوائي الذين كان يتم نقلهم إلى مشفى “آفرين” مقابل شرفتي التي كانت تطلّ على شارع المدينة الرئيسي “شارع راجو”. فقرّر زوجي إرسالنا بتاريخ 3 آذار/مارس 2018 إلى بلدة “أحرص” التابعة لمنطقة “شهبا” على أمل أنْ يعمّ الهدوء قريباً في المدينة ونعود. لم نأخذ معنا سوى حقيبتين من ألبسة الأطفال وحقيبة صغيرة لمستلزماتي الشخصية الهامّة وثيابي التي سألبسها هناك، بينما بقي زوجي هناك ليبقى على رأس عمله ويدير الموظفين في صالة الألبسة والأحذية الخاصة به “LC WAI KIKI”.
بعد مرور عدّة أيّام، تدهور الوضع الأمني في المدينة أكثر وعلِق زوجي في الحصار برفقة عائلة أهلي، وكنت أنا برفقة أطفالي وخمسة عوائل في غرفةٍ واحدة، قاسينا الكثير من حيث أمور المأكل والمشرب. كنا نشعر بالسرور ما إنْ حظينا بدوْرٍ للإستحمام ومكانٍ واسعٍ قليلاً عن الأمس للنوم.
وفي 16 آذار/ مارس 2018، تمكّن زوجي مع أهلي من الخروج من عفرين مروراً بجبل الأحلام، حيث استغرقوا مدة يومين على الطريق إلى أنْ وصلوا إلينا.
تعرّض زوجي آنذاك لخسارة تجارية فادحة، لأنّه لم يستطع إخراج أيّ غرض أو بضاعة من مخزنه التجاري، واستولت عناصر الفصائل المسلحة بعد أن دخلت عفرين على مخزنه وجميع مستودعاته وقاموا بسرقة جميع بضاعته. قدّرت خسائره قرابة 200.000 مائتا ألف دولار أمريكي تقريباً. وألصقت به الفصائل تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية لتستبيح سرقة بضائعه.
حين وصول زوجي إلى منطقة شهبا، أتى إلى بلدة “أحرص” متأملين أنْ نعود إلى بيوتنا في الأيام المقبلة، حتى أصبحت أسابيعاً، أشهراً، وأعواماً، حيث استقرينا هناك، في مواجهة مصاعب كثيرة، كما تعرّض زوجي لوعكة صحية جرّاء الصدمة والضغوط النفسية التي أدّت إلى فقدانه لحياته قبل عامين من الآن (أيْ في عام 2021).
بالحديث عمّا مررت به في تلك الفترة العصيبة، لا أكاد أصدق كيف تجاوزتُ تلك المراحل الصعبة لأبقى أماً قويّة تربي أطفالها وتلبي لهم كل احتياجاتهم بالرغم من ضيق الحال.
أنا الآن أرملة وأمٌّ لثلاثة أطفال، أعاني الكثير من المصاعب في سبيل تأمين لقمة العيش لعائلتي، وبث الطمأنينة في نفوسهم، حيث تتعرض المنطقة التي أسكنها الآن للقصف بين الفينة والأخرى من قبل الفصائل المسلحة التابعة لتركيا.
ليس لي مكانٌ أذهبُ إليه، والحياة صعبة جداً في المناطق السورية الأخرى، فهنا على الأقل نتدبّر أنفسنا بالمساعدات التي يتم تقديمها إلينا شهرياً. هذا الأمر الذي لم أكن أتخيل حدوثه يوماً. حياتي الآن مختلفة تماماً عمّا كانت عليها سابقاً في عفرين. لقد تغيّرت كثيراً وانقلبت رأساً على عقب.