تتعاظم مسؤولية الفاعلين المدنيين اليوم مع ازدياد هشاشة المشهد السوري واستمرار الانقسام المجتمعي. وفي لحظة دقيقة كهذه، يصبح الموقف المدني عنصراً بالغ الأهمية في حماية السلم الأهلي، وتعزيز العدالة، ومنع أيّ انزلاق باتجاه الكراهية أو إعادة إنتاج الصراع. ومن هذا المنطلق، تابعت المنظمات الموقّعة أدناه البيانَ الأخير الصادر عن “مدنيّة” بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، والذي حمل جملة من الإشكالات تمسّ جوهر الدور المناط بمنصة تضم أكثر من 250 منظمة على امتداد الجغرافيا السورية.
المسألة ليست تقنية فقط، بل تتعلق ايضاً بسلامة الخطاب والموقف المدني ودوره الأخلاقي والمهني. فالبيان قدّم قراءة سياسية منحازة للتطورات في شمال وشرق سوريا، بما يُضعف حياد المنصّة، ويقوّض ثقة المجتمعات التي لا تحظى أساساً بتمثيل كافٍ داخل الأطر الوطنية، ويُغذّي ديناميات خطيرة لخطاب الكراهية الذي تعاني منه المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الانتقالية منذ سنوات.
أولاً: ازدواجية التوصيف القانوني والحقوقي
استخدم البيان توصيفاتٍ مزدوجة وغير مبررة للسكان، بوصفهم «نازحين» في حالة التهجير القسري لسكان سري كانيه/رأس العين، وعفرين، وتل أبيض، و«مهجّرين» في حالة المهجرين/ات من مناطق شمال شرق سوريا، وذلك في تجاهلٍ لمعايير واضحة ومُعترف بها دولياً. هذا الخلط لا يقتصر على سوء استخدام المفاهيم، بل يعيد إنتاج سرديات سياسية تتجاهل طبيعة الانتهاكات التي تعرّض لها سكان سري كانيه/رأس العين وعفرين وتل أبيض، ما يشير إلى خلط غير منهجي في التعاطي مع الوضع الإنساني والحقوقي.
ثانياً: عدم الاتساق والأطروحات المجزأة
ركّز البيان على تدهور البنية التحتية من دون أي إشارة إلى أسبابها المباشرة، بما في ذلك سنوات مكافحة تنظيم داعش، وقصف النظام السابق، والهجمات العسكرية التركية المتكررة التي استهدفت منشآت خدمية وحيوية في شمال وشرق سوريا. تجاهل هذه الحقائق يُفرغ أي نقاش حول حماية البنية التحتية من مضمونه، ويحوّله إلى سردية مجتزأة تفتقر إلى المصداقية.
ثالثاً: الانتقائية والانحياز السياسي
اعتمد البيان انتقائية وقراءة غير متوازنة في توصيف الانتهاكات، إذ توقّف البيان مطوّلاً عند انتهاكات مزعومة في مناطق شمال وشرق سوريا، متجاهلاً الانتهاكات الواسعة على خطوط التماس وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الانتقالية وأطراف أخرى، بما في ذلك الإغلاقات المتكررة للحواجز والاعتقالات التعسفية على الهوية. هذا الانتقاء يقدّم صورة مضللة تُحمّل شمال وشرق سوريا مسؤولية تعقيدات المشهد السوري، بدل الاعتراف بأن الانتهاكات تحدث في جميع المناطق دون استثناء.
رابعاً: اختزال المشهد السياسي وسياق الاتفاقات
تجاهل البيان السياق السياسي والدولي المرتبط باتفاق العاشر من آذار، الذي جاء نتيجة رغبة صادقة في بدء حوار وطني وبرعاية من جهات دولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. إذ لم يكن الاتفاق نتاج تفاوض داخلي فحسب، كما قدّمه بيان منصّة “مدنيّة”. هذا الاختزال يُبعد النقاش عن أسس العملية السياسية، ويحوّل حدثاً ذا أبعاد وطنية ودولية إلى سردية مبسّطة لا تعكس حقائق التفاوض أو طبيعة التوازنات التي تحكمه.
خامساً: تغييب التهديدات القائمة وتجاهل الواقع الإنساني
لم يأتِ البيان على ذكر استمرار هجمات داعش التي ما تزال مصدر تهديد مباشر للأمن والاستقرار، ولا الاعتداءات المتكررة للفصائل المسلحة على خطوط التماس، ولا أزمة المخيمات التي تعاني خفضاً حاداً في التمويل، أو بقاء مخيماتٍ غير معترف بها خارج أي استجابة إنسانية. كما تجاهل حرمان مئات آلاف السكان من المياه بسبب تحكّم تركيا بمحطة علوك ومنابع الفرات والخابور، وإغلاق المعابر أمام الحركة الإنسانية والمدنية. تغييب هذه التحديات يُفقد أي تحليل مصداقيته، ويجعل البيان متعارضاً مع أبسط مقتضيات المهنية.
تعكس هذه القراءة تراجعاً خطير في معايير الخطاب المدني، الذي يُفترض أن يكون عابراً للاستقطابات السياسية، وحاملاً لحقوق جميع السوريين دون انتقائية أو تحيّز أو توظيف سياسي. وحين يصدر خطاب بهذا الثقل عن منصّة تضم عشرات المنظمات، فإن أثره لا يقتصر على سجالٍ عابر، بل يمتد ليهدّد الثقة بين مكوّنات المجتمع، ويعمّق شعور الإقصاء والتمييز، ويهدد المساحة المدنية والسلم الاهلي.
وانطلاقاً من مسؤوليتنا المشتركة في حماية الفضاء المدنية، ندعو “منصّة مدنية” إلى:
دعوة “منصّة مدنيّة” بشكل خاص إلى مراجعة بيانها الأخير، وسحبه والاعتذار عنه، واستخلاص الدروس منه، والعودة إلى نهجٍ يعكس التزامها المعلن بالاستقلالية والموضوعية.
تحمّل الفاعلين المدنيين، بمن فيهم المنصّات الكبرى، مسؤولية الخطاب الذي ينتجونه، والتأكد من اتساقه مع مبادئ الحياد، والشمول، وعدم التمييز.
تعزيز الحوار بين مكوّنات المجتمع المدني السوري في مختلف المناطق، بما يشمل المنظمات الفاعلة في شمال وشرق سوريا وفي الداخل السوري وفي الشتات، بهدف تجاوز الصور النمطية والمواقف المنحازة، وفتح مساحات للتعاون المهني.
الالتزام بالمبادئ الاساسية للعمل المدني وتبني نهج شامل وغير انتقائي وغير منحاز، اعتماد مقاربات تستند إلى حقوق الإنسان، لا إلى الاصطفافات السياسية، بما يمنع تحويل البيانات المدنية إلى أدوات للاستقطاب أو التوظيف السياسي.
مراعاة الحساسية الشديدة للسياق في شمال وشرق سوريا، وضمان عدم المساهمة، ولو عن غير قصد، في تأجيج خطاب الكراهية أو إعادة تدوير أنماط الإقصاء.
ختاماً، تؤكد المنظمات الموقّعة أنّ مستقبل سوريا العادلة لا يُبنى عبر بيانات تُعمّق الشرخ أو تُعيد إنتاج روايات أحادية، بل عبر خطاب مسؤول يراعي واقع وحقوق المجتمعات كافة. فالمسؤولية الأخلاقية والمهنية للمجتمع المدني اليوم ليست أقل من أن يكون عامل وصل، لا عامل تفريق؛ وأن يحمي السلم الأهلي، لا أن يساهم في تقويضه.
المنظمات الموّقعة بحسب الترتيب الأبجدي:
بيل – الأمواج المدنية
جمعية آراس
جمعية جدائل خضراء البيئية
جمعية خطوة حياة للبيئة
جمعية شاوشكا للمرأة
جمعية ليلون للضحايا
جمعية نوجين للتنمية المجتمعية
رابطة تآزر للضحايا
رابطة دار لضحايا التهجير القسري (DAR)
شبكة ضحايا انعدام الجنسية في الحسكة
شبكة قائدات السلام
فريق صناع المستقبل
مؤسسة آشتي
مؤسسة سلام للأمل
مؤسسة سمارت للتنمية المجتمعية
مالفا للفنون والثقافة والتعلم
مركز آسو للاستشارات والدراسات الاستراتيجية
المركز السوري للدراسات والحوار
مركز زاغروس لحقوق الإنسان
منظمة أرض السلام
منظمة التعاون الإنساني والإنمائي
منظمة الجيوستراتيجي للمجتمع المدني الكوردي
منظمة العمل من أجل عفرين
منظمة بادر للتنمية المجتمعية
منظمة بيام للتنمية
منظمة تارا للتنمية
منظمة جيان الإنسانية
منظمة حقوق الإنسان عفرين – سوريا
منظمة دار للسلام والازدهار
منظمة دان للإغاثة والتنمية
منظمة دعاة المساءلة
منظمة ديموس
منظمة رنك للتنمية
منظمة روج كار للإغاثة والتنمية
منظمة روز للدعم والتمكين
منظمة زمين للتنمية وبناء السلام
منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة
منظمة شمس للتأهيل والتنمية
منظمة فجر
منظمة كوباني للإغاثة والتنمية
منظمة معاً لمجتمع أفضل
منظمة نساء الغد
منظمة هوري لحقوق الإنسان
منظمة وايب هوب
منظمة Artistللثقافة والتنمية
منظمة RÊ للتاهيل و التنمية
وي كير
Lelun Afrin