لقد عُدتُ إلى منطقة عفرين بعد عملية “غصن الزيتون” التركية، لم تكنْ عودتي عن عمد. ساقني القدر إلى أيادٍ وأرضٍ لم أعهدها. كانت عفرين اسماً فقط. أستطيعُ أنْ أقرّ بحقيقة أنّني لم أشعرْ بأنّها الأرض التي ولدتُ على ترابها وأكلتُ من خيراتها، إنّما قبراً لم أحظى برحمة الموت حتى بداخله.
ربّما سيستغرب الجميع من قول شيءٍ كهذا عن أرضه، لكن حين تتحوّل الأم التي تلمّ شمل أبناءها وتحميهم، إلى مكانٍ تنهشك دون رحمة، بالكاد هذا ما سيقال.
إلى الآن أعيش على المهدّئات والأدوية التي تساعدني على النوّم لأعيش يومي كأيْ إنسانٍ طبيعي، والحمد لله بفضل زوجي وأبنائي استعدتُ نفسي التي فقدتها.
كانت معاناةً وخوفاً وعذاباً لا يستطيع أن يتخيّله أي إنسان، أمّا عن كمية الإهانة التي تعرضت لها من قِبلهم وهم يضربونني باستفزاز ويستهزئون قائلين:
- لقد أخذنا حقّنا من الكرد، لقد نلنا من نسائهم.
أبلغُ الخامسة والستين من عمري وأعتنق الديانة الإيزيدية. بعد عملية “غصن الزيتون”، توجّهنا إلى مدينة القامشلي بقصد الاستقرار فيها، حيث أنّ أولادي جميعهم في بلاد المهجر، وكنا أنا وزوجي لوحدنا. كان ينتابني شعورٌ دائمٌ بالوحدة والحزن بعد النزوح، حتى اتّخذتُ القرار بالرجوع إلى منطقة شهبا، لأنّها قريبة من أرضِ عفرين، ويا ليتني ما رجعت!
رفض زوجي القرار، لأنّ أوضاع الأهالي صعبة جداً هناك من الناحية المعيشية، وحاولت كثيراً، لكنّه ظلّ رافضاً، إلى أن اتّخذت قرار الرجوع في لحظة انهيارٍ وشوقٍ وتعبٍ نفسي كبير. كان ذلك في منتصف شهر حزيران من عام 2018.
حملتُ حقيبتي واستقليتُ سيارةً إلى منبج، إلى أن وصلت إلى المعبر، وقالوا لي أنّ الطريق مغلق لأهالي عفرين من منبج إلى حلب لدواعٍ أمنية، ثمّ أخبرني أحد السائقين في كراج السيارات أنّه بإمكانه إيصالي إلى حلب من خلال المرور من جرابلس عن طريق التهريب، لكن يتوجب عليّ المبيت ليلة في منزله، وافقتُ دون تردّد، مع دفعي لمبلغ مالي له. وفي اليوم التالي انطلقت بسيارته، ليخبرني بعد مسافةٍ ليست بطويلة:
- “ها قد وصلنا إلى جرابلس!”
وهنا، لم أدري أين أنا وأين أتوجه. توقفنا عند حاجز الجيش الحرّ، ليسألني أحد العناصر:
- من أنتِ؟ وأين وجهتكِ؟
- أنا من عفرين واسمي …، وأنا إيزيدية من قرية “قسطل جندو” المحاذية لمدينة اعزاز.
شدّني العنصر بقوة وأخرجني من السيارة، وقال للمهرّب:
- اترك لنا هذه.
أرغمني على النزول، وأحضر السكين، وقال:
- انطقي الشهادة، وإلا ذبحتك!
- لا وألف لا، ولدتُ بديني وسأموت على ديني.
ليمسك بي ويقذفني لشخص آخر قائلاً له:
- خذ هذه إلى المخفر للتحقيق.
يوماً بعد يوم، وأنا في زنزانةٍ منفردة بلا طعام وبلا ماء، كنتُ أتعرّض للتعذيب عبر الصعق بالكهرباء، وقلعوا أظافري، وكانوا دائماً ينعتونني بالكافرة. كانوا يحضرون سيخاً ساخناً جداً ويمرّرونه على جسدي. ذقت كل أشكال التعذيب والإهانة، وكانوا دائماً يبتزوننا بأنّهم “نالوا من النساء الكرد وأخذوا ثأرهم منا”.
في أولى أيام عيد الأضحى من ذات العام، تمّ الإفراج عني بعد أنْ توصّل زوجي إلى معرفة مكاني، ودفع مبلغ خمسة عشر مليون ليرة سورية له، حيث كنت وقتها في سجنٍ بمدينة اعزاز. وبعد الإفراج عني، طلبتُ منهم أن يأخذوني إلى منزلي قبل العودة إلى زوجي في مدينة حلب. وما إنْ وصلتُ، يا ليتني ما ذهبت! لم يكن ذلك بيتي، ولم أشعر أنّني مالكته. لقد حوّلوه إلى حاوية قمامةٍ جرّاء النبش والتخريب، فقلتُ لأحد العناصر:
- لماذا فعلتم هذا ببيتي؟ بالله عليكم!
- اخرسي! وإلا تبولتُ على كل أشيائك.. هذا بيتٌ للكفار ومباحٌ لنا حرقه.
وبالفعل، بعد وصولي إلى حلب، أخبروني بأنّهم قاموا بحرقه.
كنتُ أسأل نفسي دوماً:
- “لِما ساقني القدر إلى هذه المأساة؟”
نحن أناسٌ مسالمون وإنْ كنا من غير دينهم، نريد السلام ليس أكثر، ربّما لم تكن خطيئتي وحدي، فالآلاف مثلي يقبعون تحت رحمتهم في تلك السجون، لربّما هي خطيئة أجدادنا التي ستلاحقنا إلى الأبد بأننا ولدنا كرداً.