“مثل أي فتاة، كنت أحلم بفستاني الأبيض ويوم تخرجي من الجامعة، وكأنني سأملك الكون بأسره بذلك. لم أكن أطلب الكثير، فقط فستاناً بسيطاً يلائم قلبي وظروفي، ومنزلاً متواضعاً مع من أحب. لكنني لم أتخيل أبداً أن الأحلام قد تتحطم تحت وطأة تهجيرٍ آخر ومرارة المسافات‘
هكذا تصف يارا أحلامها لباحث/ة ليلون مع تداعيات التهجير القسريعليها، وتكمل:
“في الثامن عشر من مارس/آذار 2018، هُجِّرتُ مع عائلتي منمنطقتي، عفرين، الواقعة في أقصى الشمال السوري، حيناجتاحت فصائل الجيش الوطني السوري بدعمٍ من القواتالتركية منطقتنا ضمن عملية “غصن الزيتون“. شعرت حينها أنحياتنا تغيرت رأساً على عقب، بيتنا الجميل الذي نشأتُ فيه، ساحة المنزل المليئة بالأشجار والكروم الملتفة حول زوايا منزلنا ، حتى شجرتا الزيتون في باحة منزلنا اللتان اعتدتُ الجلوستحتهما مع والدتي، كل شيء أصبح بعيداً فجأة. اضطررتُ للنزوح قسراً كسائر أهالي منطقتي، واخترنا وجهتنا في ناحيةالأحداث التابعة لمنطقة شهبا في ريف حلب الشمالي، حيثاستقررنا مثل آلاف المهجرين الآخرين، محاولين بناء حياة جديدةفي خيمٍ وبيوتٍ متهالكة لا تشبه منازلنا، لكنها تظل أكثر أمناً منالتضييق والاعتقال.
في منطقة شهبا، حيث البيوت المتهالكة التي هجرها أهلها إزاءالحرب السورية وشح الموارد، لم يكن الأمر سهلاً. كانت الحياةهناك قاسية الملامح، فلم أستطع إكمال دراستي الثانوية بسببالظروف الاقتصادية الصعبة بعد التهجير. لكنني لم أستسلم. بعد أربعة أعوامٍ من الانقطاع، وبدعم من خطيبي الذي كان يملكمحلاً صغيراً للألبسة، قررتُ العودة إلى مقاعد الدراسة والحصولعلى شهادتي. اجتزتُ الامتحانات أخيراً، وكانت سعادتي لاتوصف حين حصلتُ على قبول في كلية الفلسفة في جامعةحلب. كان الحلم يكبر أمامي، حلم المعرفة، وحلم بناء عائلة معرجل اختار أن يكون شريكي الداعم وسط هذه الحياة المبعثرة.
بدأتُ أخطط لزفافي بهدوء، كمن يحاول أن يصنع فرحة رغم ضيقالحال. اخترتُ فستاناً متواضعاً لكنه يليق بي، جهزتُ بعضالأغراض البسيطة لمنزلنا الجديد المتهالك، وحلمتُ بحياة بسيطةلكنها دافئة. كنتُ أقول دائماً لأمي: “سنعيش هنا مؤقتاً، سنعوديوماً ما إلى عفرين ونبني حياتنا من جديد، قررنا أنا وأحمد، أنيكون زفافنا في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2024، إلى أن حلَّ ما لم يكن في الحسبان“.
نزوحٌ آخر
“في إحدى أمسيات ديسمبر الباردة، صاح بنا الجيران لتنطلقالقوافل نحو مناطق شمال شرقي سوريا، بينما اختار البعضوجهته على عجل إلى مدينة حلب أو حتى عفرين. كان الخطريقترب منا بسرعة، بعد إعلان فصائل الجيش الوطني عمليتهمالعسكرية الثانية، أولئك الذين سبق أن احتلوا منطقتنا، عفرين، والآن جاءوا ليستكملوا سيطرتهم على ناحية الأحداث، المكانالذي لجأنا إليه ظناً منا أنه سيحمينا من الانتهاك والاضطهاد. منهم. جلُّ ما استطعتُ فعله في تلك اللحظة هو جمع بعضالأغراض على عجل، ومعها بعض الطعام بما يبقينا على قيدالحياة. قبل مغادرتنا، ألقى والدي البنزين على أثاث وأغراضالمنزل الذي اخترناه حصناً يقينا في أعوام التهجير، قائلاً: “لقدسرقوا بيتي وزيتوني وأرضي، لكن هذه المرة لن أترك لهموسادة“. ركبت السيارة برفقة والدتي والدتي وأشقائي ، نظرتُ إلى أغراض البيت خلفي، حاملةً معي بضعة ملابس تقي بردالشتاء وسجادة ووسادتين فقط. لم أستطع إخراج شيء، كانعلينا الخروج سريعاً، فقد كانت الفصائل على بعد أقل منكيلومتر واحد منا. ما آلمني أكثر أنني لم أتمكن من أخذ فستانزفافي الذي أحضرته من حلب. نظرتُ إليه للمرة الأخيرة، وهوهناك وسط الأغراض، قبل أن تلتهم النيران كل شيء.
عند خروجنا من ناحية الأحداث نحو مناطق شمال شرقي سوريا، انقطع الاتصال بيني وبين خطيبي، لأنه كان يقيم في إحدى قرىشيراوا المحاذية لعفرين. بعد ثلاثة أيام من البرد والجوع والتعب، وصلنا إلى الرقة، وهناك اتصلتُ بعمي وقلبي تلتهمه الحيرةوالخوف والتعب، فأخبرني أن أحمد وشقيقه الآخر قد تعرضاللاعتقال، وأُجبر هو وعائلته على العودة إلى عفرين، لأنهم لميستطيعوا الخروج في الوقت المناسب والالتحاق بقافلة المدنييننحو مناطق شمال شرقي سوريا.
شعرتُ حينها أنني فقدتُ كل شيء.. فرحة حفل زفافي الذي كانسيتمُّ بعد يومٍ من وصولي إلى الرقة، وخطيبي الذي اعتُقل منقبل الشرطة العسكرية أثناء دخوله منطقة عفرين ودفعه فديةمالية للإفراج عنه، بنفس المبلغ الذي كنا سنقيم به حفل زفافنا. اضطر أهله لدفع أربعة آلاف دولار لقاء إطلاق سراحه هو وشقيقهوتسوية أوضاعهما، بتهمٍ واهية ألا هي استقراره في منطقةتخضع لقوى معادية.
الحق المُنتظر
“وهكذا، بقي حلمي معلقاً بين النزوح والفقد، مؤجلاً على أمل قدلا يأتي. لم يكن ما عشته مجرد خسارة منزل أو مقتنيات، بل كاناقتلاعاً قسرياً من هويتي وأحلامي الصغيرة. لم يكن تهجيريالأول سوى بداية لسلسلة من التداعيات السلبية المتكررة، وكأنقدري أن أظل عالقة بين الرحيل والانتظار.
فستاني الأبيض لم يعد مجرد قطعة قماش، بل أصبح رمزاً لكل ماحُرمت منه، لكل فرحة قُطعت قبل أن تولد، ولكل حياة أُجبرتُ علىإعادة بنائها من العدم. وخطيبي، الذي كان شريكاً في الحلم، أصبح ضحية أخرى وشاهداً على واقع قاسٍ يُجبر الأبرياء علىدفع ثمنٍ باهظ مقابل حريتهم.
لا أعلم متى سيرجع كل حقٍ لذويه، فهناك في سوريا كانوايحتفلون بالتحرير وينادي أهلنا الأحرار بإنصاف الضحاياوتحقيق للعدالة، وهنا نحن كحال الغريب بلا وطنٍ، لاندري متىسنستعيد حقنا في العيش بكرامة دون خوف من غدٍ مجهول. متى سيحق لنا الرجوع إلى ارضنا والعيش بكرامةٍ دون الخوفالاعتقال أو الخشية من أنني أشكل تهديداً على أجندات أحد. أعلم أنني لست وحدي، وأن قصتي هي قصة آلاف النساءاللواتي خسرن بيوتهن، وأحلامهن، وحتى أحبّتهن في دوامةحرب لا ترحم منذ بدء عملية غصن الزيتون الثاني على أرضناوإلى التهجير الثاني الذي حلَّ علينا عوضاً عن عودةً تليقبصبرنا وتنصف معاناتنا.
ربما لم أرتدِ فستان زفافي، ولم أحظى بالتخرج من جامعتي التي كنت على أملٍ دائم بأنني سأتخرج منها في غدٍ قريب، ولم أعد إلى أرضي تلك العودة الطيبة التي نهلهل بها بالزغاريد وكأن ذلك اليوم يعوض بفرحته كل المعاناة التي عشناها والأحلام التي فقدناها، لكنني ما زلت أحتفظ بحقي في أحلامي المعلقة، حتى وإن كان حلماً مؤجلاً”.