قصة نزوح
تدهورت حالة أمّي النفسية بسبب الهلع من القذائف، أمّا أنا فقلتُ: “مهما حدث فلن أخرج من منزلي“. كانت القذائف تسقط حول منزلنا. شاهدنا طائراتُ الكشف والهليكوبتر تحوم فوق القرية. لم يتبادر إلى ذهني فكرة الخروج من القرية للحظة، حينها تمّ إخراج كلّ النسوة والأطفال وبقي الرجال، ووبّخني أخي ونعتني بالعنيدة، لأنّه لم يبقى في القرية أحدٌ سواي من النسوة، ولكننّي قلتُ: “أين سأذهب وهذا الولد المُعاق معي؟ وكيف سأخرج…!؟“
أحضر أبي سيّارةً، وتوجّهنا برفقة أمي وابني المُعاق إلى قرية “علكة”. لو بقي معي شخصٌ واحد لما خرجتُ من منزلي. قضينا ليلةً هناك، فيما بعد ذهبنا إلى مدينة عفرين، بينما تداولت الأخبار نبأ احتلال القرى المحيطة بقريتنا.
أقمنا في مدينة عفرين بمنزلٍ قيد الإنشاء، لا أبواب لها ولا نوافذ، خالٍ من الفراش والبطانيات، حيث كنا قد خرجنا بلباسنا فقط والأمطار تنهمر. قضينا في ذلك المنزل التعيس أسبوعاً كاملاً.
اتّصل أخُّ زوجي وطلب منّا أنْ نمكث عنده تلك الفترة. كان منزله عبارة عن غرفة واحدة. بقينا هناك قرابة أسبوع أيضاً. شاهدنا الناس يخرجون من عفرين، بينما قال أبي: “لو تدمّرت عفرين بأكملها، فلن أخرج منها.”
في ١٦آذار ٢٠١٨ رأيت الناس يخرجون بقوافل من السيارات المصطفّة وراء بعضها البعض، ومن لم يملك سيارة أو جراراً، كان يخرج مشياً على الأقدام، أمّا أنا فاتصلتُ بأبناء عمتي ليساعدوني في الخروج وألّا يتركونني وحدي، بينما لم يلتحق بنا ابني الكبير البالغ من العمر ثلاث وعشرون عاماً بعدْ.
جاء ابن عمتي الذي هو بعمر ابني الكبير وحمل ابني المعاق ذو الثمانية عشر عاماً على ظهره بمشقةٍ بالغة، وتوجّه بنا مشياً إلى “دوّار كاوا” حيث تقف سيارتهم وجرّارهم. كنّا خمس عائلات، ركبت أربع عائلات الجرار، بينما ركبنا نحن السيارة، والتي تعطّلت بنا بينما كنا نصعد “جبل الأحلام”، بعد أنْ قضينا يومين على الطريق. كانت سيارات الإسعاف تمرّ بالقرب منّا، وترعبنا دويُّ الانفجارات والقذائف وتحليق الطيران الحربي في السّماء. خرجنا بعذابٍ مريرٍ ومعاناة مع استمرار هطول المطر بغزارة مما أدى إلى تسرّب المياه عبر الشقوق إلى السيارة في ظل البرد القارس والرّعب الشديد.
وفي منتصف الطريق بينما كنّا على وشك بلوغ قمة جبل الأحلام، نفذ وقودُ السيارة، ولكن أين البنزين؟ وأين نحن…!؟ ، فطلب ابن عمتي أنْ ننزل من السيارة ونصعد مشياً إلى أنْ نلتحق بالجرّار، لأنّنا تركنا السيارة خلفنا حيث توقفّت. سار أبي العجوز وأمّي المريضة، وأنا ممسكة بيد طفلي المعاق بينما نحاول النجاة، فلا أحدٌ يستطيع الوقوف وخاصة السيارات والمركبات، لأنّ الطريق كان خطِراً و وعراً، ويتسارع الناس لينجو بأرواحهم.
لم يبقى لدينا حيلةٌ ولا طاقةٌ لإكمال الطريق، مع ذلك جاهدنا للوصول إلى الجرّار وركبناه متوجهين إلى قرية “كيمار” بعد أنْ عبرنا هذا الجبل المخيف بصعوبةٍ بالغة.
هناك توقفنا لنستريح وننام قليلاً بعد أنْ نسينا النوم لأيّام ونحن في طريق الهرب من الموت. بتنا في سيارة ابن عمتي الصغيرة. كنّا ستة أشخاص في سيارة مرسيدس وابني المعاق جالس على ركبتي. ما عدتُ أحسّ بقدمي، حيث كان الجوُّ بارداً والمطرُ غزيراً. قلتُ لأمّي: “سأنزل وأطرق أيّ بابٍ كان، فمن الصعب أنْ تبقى ليلةً كاملةً وأحدهم جالس على ركبتيك في سيارةٍ صغيرةٍ لا تتسعُ لمدّ أطراف أرجلك”.
نزلتُ من السيارة وتوجّهتُ لأحد البيوت وطرقتُ الباب. فتحته امرأة كانت لطيفة جداً معي، حيث قالت: “تعالي أنتِ أيضاً نامي مع ابنك“. فقلت لها: “معي أبي وأمي أيضاً“، فلم ترفض، بل دعتهم للداخل معنا، أمّا العوائل الأربعة الأخرى التي كانت معنا، ناموا في الجرّار، بينما أولاد عمتي الشبان وضعوا فراشهم في الشارع وناموا حتى الصباح تحت المطر. كانت ليلةً قاسيةً علينا، لا أزال أتذّكر تفاصيلها كما لو كنت أعيشها الآن.
قضينا ليلةً دافئة كما لو كنا لم ننمها لسنواتٍ، بطانية دافئة، اسفنجة ناعمة وغرفة هادئة. كم كان مريحاً! تذكرتُ دفء منزلي في حلب قبل الحرب السورية. كنت أنا وزوجي الخيّاط نعيش حياةً جميلةً هادئة مع ولديْنا، لكنّ الحرب أفسدت كلّ شيءٍ جميل، فقد أصيب زوجي بنوبة قلبية بعد نزوحنا من حلب إلى القرية، ومات على إثرها تاركاً إياي وحدي مع طفلين صغيرين، فسكنتُ عند أمّي، إلى أنْ بنيت منزلاً خاصاً قريباً من منزل أهلي وأقمنا فيه. كانت حياتي سعيدةً قبل الحرب، مع هذه الخيالات الجميلة.
غرقتُ في نومٍ عميقٍ، وفي الصباح الباكر كان علينا الانطلاق لوجهةٍ لا نعلمها سوى أنّه علينا المغادرة. شكرناهم وانطلقنا الى المجهول، إلى حيث لا نعلمْ.
اتصلتُ بأخّ زوجي الذي جاء فور معرفته لمكاننا، وقادنا بسيارته لمنزله في قرية “بينه”، وهناك كانت الجرارات تعود أدراجها إلى عفرين، ركب أبي إحداها، وقال: “سأعود لقريتي، لن أبقى مشرّداً هكذا، ولي بيت ينتظرني”. صعدتُ إليه رافضةً ذهابه وحده، لكنّ صاحب الجرّار قال لي: “يا ابنتي! أنت معلمة اللغة الكردية، فالأفضل لك عدم العودة”. فنزلتُ منها مرغمةً على ترك والدي يذهب وحيداً، فأمّي رفضتْ العودة معه وبقيتْ معي، ولكننّي إلى الآن لم أشعر بحرقة القلب كالتي أحسستها وأنا أودّع أبي الذي عاد إلى قريته.
بقيتْ أمّي خمسة عشر يوماً معي في قرية “بينة “، اتصلتُ بابني الكبير وأرشدته إلى مكان إقامتي ليأتي إلينا. بعد أنْ هدأتِ الأوضاع، جاء إليّ، فرحتُ كثيراً وكأنّني امتلكتُ الحياة مجدّداً، لكنّني سرعان ما فقدتها بعودة أمّي إلى القرية، حيث أبي ينتظرها هناك.
بعد عدة أيام اتّصل بي ابن عمي الذي كان يقطن في قرية “حربل”، أخبرته بأنّنا سبع عائلات نعيش في منزلٍ واحد، ننتظر طوابيراً لنحجز دوراً لنا للدخول إلى الحمام. تعذّبنا وذقنا الويل بما فيه الكفاية لنبدو أكبر من أعمارنا، فطلب ابن عمي منّا المجيء إلى قرية “حربل” التي تعتبر خط جبهة مقابل مدينة “مارع”. أرسل لنا سيارة وذهبنا إلى هناك، وسكنّنا في منزله لمدة شهرين ونحن ننتظر خبر العودة إلى عفرين، بل ومتأكّدين أنّنا سنعود خلال أيامٍ معدودة، لكن تلك الأيام صارت أسابيعاً وشهوراً فسنوات.
خرجنا من منزله الذي كانت تسكنه ثلاث عائلات، الأمر الذي أدّى إلى خلق مشاكل يومية بيننا، فاضطررنا للخروج والسّكن في منزلٍ مجاور لوحدنا أنا و ولديّ الاثنين.
عمل ابني الكبير في إحدى المؤسسات، وأنا عدتُ للتعليم في مدرسة “حربل الإبتدائية”. أخذتُ ابني المُعاق معي على عربة نقل الأطفال، فليس لديّ أحدٌ أتركه عنده، كانت أمي تعتني به في غيابي ولكنّها ذهبت.
أعيش حياتي هنا بتعاسة وشقاء وكأنّني أعيشها فقط كي لا أموت. تضاعفتْ أمراض ابني، وقضيتُ أيام نزوحي هنا بين المشافي والمدرسة. لم أشعر بلذّة الحياة منذ خرجتُ من منزلي، فأنا أركض ليلاً نهاراً بحثاً عن لقمة العيش. نتحمّل هذا الشقاء كلّه أملاً في العودة للدّيار، ولو بعد حين، فمازلنا نتمسّك بذاك الأمل ولو كان ضئيلاً.