أنا الآن في منتصف العقد الرابع من عمري، أمٌ لأربعة أبناء، ثلاث شبّان وفتاة وحيدة. أعيش الآن في مدينة حلب بعد نزوحنا من قريتي إثر رحلة انتقالنا إلى منطقة “شهبا” قبل ذلك، وبسبب وضع زوجي الصّحي الذي أجبرنا على الانتقال.
لا يعلم المرء ما الذي عليه أن يقوله ليصف كمية الألم الذي عاناه من مرارة التشرّد وألم النّزوح، إنّها حكاية ألم تفجع كل منصتٍ وقارئ علاوةً على من رآها، ما إن تحدثتُ عن قصة الألم الذي عانيته خلال فترة النزوح، فأنا أحكي جزءً يسيراً جداً عن ما عاناه أهلنا خلال تلك الفترة العصيبة.
لا أدري كيف أرتّب الكلام، ومن أين أبدأ وماذا عليّ قوله لأصف كمية الألم المهيمنة على قلبي،لأنّ العواطف تغلبني ما إنْ حدثتك عن ظلم الأيام وكيف تقلبت أحوالنا من مساكن الجنان إلى حال الجحيم القاتم. لكنني ما زلت أدعو أن تنصفنا عدالة السّماء ذات يومٍ ويعود لكلّ ذي حقٍ حقّه.
أمّا عن حياتي وأيامي السابقة، كنت أعيش في قرية تعتبر من أجمل قرى عفرين، وكانت مقصداً للسيّاح من كافة المحافظات السورية. كنا نملك منتجعاً سياحياً ومروجاً وحقولاً. كان زوجي طبّاخاً معروفاً، وأولادي الثلاثة يديرون المنتجع برفقة أعمامهم وأبناء العائلة، وابنتي الوحيدة مخطوبةً.
كان منزلي يطلّ على الطريق الرئيسي إلى مدينة عفرين، كنت أرى الكثير من الوجوه الغريبة وخاصةً أثناء الحرب السّورية، السّيارات المحمّلة بأغراض النازحين والرّكاب الغرباء من مناطق سورية أخرى، كنت أشعر بالأسى للحالة التي آلت إليها البلاد، لكن لم تكن ضمن توقعاتي يوماً أنْ ينقلب الحال بنا وتصبح جناننا ملْك الغريب ونحن في خراب البيوت.
الفرق، أنّنا استضفنا عشرات آلاف النازحين بكل حبّ في رحاب أرضنا، ثم اضطررنا إلى النزوح بعد قيام الفصائل وبعض عوائلهم بسرقتنا والاستيلاء على ما هبَّ و دبَّ من أملاكنا وعلاوةّ على ذلك قاموا بتهجيرنا منها!
أثناء بدء العملية العسكرية التركية، كانت قريتنا على مسافةٍ قريبة من مكان الهجوم، لأن قريتنا تقع أسفل جبل الأحلام وهو الممر الواصل بين عفرين وطريق الوداع. كانت كذلك حقاً لأننا حين قصدنا ذلك الجبل للرحيل كان يوم الوداع الأخير، ولم يكن لذلك الجبل نصيب من اسمه “جبل الأحلام” وإنّما العكس، كان كابوساً لنا ولكل من عبر ذاك الجبل.
كنا نرى كل يوم تلك الوجوه الحزينة التي تسير بألمٍ نحو ذلك الجبل، وكأنّ السّماء تنتقم من كل فرد عابر منهم.
يوماً بعد يوم، قرّرنا الانتقال إلى أرياف شهبا الواقعة على مسافة قريبة من عفرين، بعد تدهور الوضع وحركة النزوح الكببرة التي شهدتها المنطقة، هممنا بالرحيل بتاريخ 1 آذار/مارس 2018، لنلتحق بالأهالي هناك لفترة مؤقتة ريثما ينتهي هذا الكابوس والعودة ثانية ما إن تهدأ الأوضاع. أستأجرنا فيلّا كبيرة مع عدة عوائل من القرية وعائلة خطيب ابنتي، لكن للأسف، حصل ما لم يكن بالحسبان، وصلت قافلة الوداع الأخيرة وتم الإعلان عن سيطرة القوات التركية على عفرين بتاريخ 18 آذار/مارس 2018.
بعد مرور عدة أيام، أخذ بعضٌ من أفراد العائلة قرار العودة إلى القرية لإدارة أملاكهم على أمل أنْ نلتحق بهم فيما بعد. وذلك بعد الترويج من قبل بعض الأهالي بأنّ الفصائل لا تؤذي أي أحد ولا تنوي مسَّ الضرر بأيّ كردي وإنما تشجع الأهالي على الرجوع. فعاد بعض الرجال برفقة خطيب ابنتي إلى القرية، وبعد وصولهم اتصلوا بزوجي لإقناعه على العودة بأنّ الفصائل المتواجدة هناك “فرقة الحمزة ” لا يمسّون أحداً بسوء أو ضرر، وهذا ما حصل بالفعل.
انطلق زوجي برفقة ابنتي الوحيدة صوب القرية، وبعد وصولهم بعدة أيام، كانت الأمور شبه طبيعية، ولم تكن هناك انتهاكات تذكر. كان خطيب ابنتي في زيارة لمنزلنا وخطيبته، لكنّه ما إنْ وصل إلى هناك، ألصق عنصرٌ من فصيل “الحمزة” تهمة التجسّس على منزل قائد الفصيل الملقّب بـ”الأمير”، لذا تم اعتقاله وتعرّض للضرب والتعذيب، وبعد ذهاب زوجي إليه ليتقصى عن وضعه تم اعتقاله هو الآخر وإلقائه في السجن، لكن تم الأفراج عن خطيب ابنتي فيما بعد، وبقي زوجي رهن الاعتقال.
بعد التقصي والمتابعة والاستفسار اتضّح أنّ فرقة الحمزة ألصقت به تهمة “التعامل مع الإدارة الذاتية” وطالبت مبلغ تسعة آلاف دولار لقاء الإفراج عنه (كفدية)، فقمنا بدفع الفدية بعد اقتراضه من خطيب ابنتي، وتم الإفراج عنه إثر ذلك.
آنذاك، كانت ابنتي الوحيدة بمفردها في القرية وقرّر خطيبها أنْ يتزوجها دون حفلة زفاف رسمية لئلا تبقى وحيدة. هو الأمر الذي لم أتمالك به نفسي، أحسسته أنّه عزاء روحي وليس زفاف وحيدتي، ووافقنا أنْ تعيش في كنف زوجها خوفاً عليها أنْ يصيبها أي مكروه من قبل عناصر الفصائل.
بعد إطلاق سراح زوجي من السجن، قرّر الخروج من القرية ووصل إلى مناطق شهبا وهو في حالة نفسية وعصبية مزرية جراء التعذيب الذي تعرّض له، كان يعاني من حالة هستيرية وخوف وأرق دائمين. آنذاك قررنا المجيء إلى مدينة حلب بقصد المعالجة، وحتى اليوم هو في الحالة ذاتها ولا تحسّن في صحته.
لم أدرك يوماً أنّني سأعيش هذه المعاناة وأتعرض لهذا الكمِّ من الألم والحسرة على ما كنت عليه. إنّ الرفاهية والغنى الذي كنت عليه في قريتي تجعلني أتحسّر على كل لحظة نعيم كنت أعيشها ولم أعرف قيمتها آنذاك، لكنها حال الدنيا.
وأدعو الله أن تنصفنا عدالة السماء عمّا قريب ونعود للعيش بين أهلنا وأرضنا إنْ شاء الله.